الجمعة، 14 يناير 2011

انفصال جنوب السودان .. ومخططات تفتيت العالم الإسلامي

د.حمدي عبد الرحمن
شملت النماذج التاريخية للهجوم الأجنبي على العالم الإسلامي بغض النظر عن أساليب التنفيذ الاستراتيجية، ما يمكن أن نسميه سياسة تقطيع الأطراف الإسلامية التي جسدتها عمليات الاسترداد الإسبانية للأندلس، تم تقطيع وتجزئة الدولة العثمانية، وهو ما تجلى في خبرة الاستعمار الأوروبي الحديث. كما أن نشأة الدولة الإسلامية الحديثة لم تمنع من استمرار آليات التدخل الخارجي. ويلاحظ أن مبدأ التعامل مع العالم الإسلامي والعربي تحديداً، بهدف إضعافه من الداخل، بغض النظر عن أدوات التنفيذ، يجد أسسه ومنطلقاته في الفكر الاستراتيجي البريطاني. ويبدو أن الخبرة الأمريكية المعاصرة ورثت تلك التقاليد وحاولت تطبيقها وإعمالها ولو بأشكال أخرى.
مبادئ التعامل الغربي
مع العالم الإسلامي
وتظهر النماذج التاريخية لتعامل القوى الأوروبية مع العالم الإسلامي أنها استندت إلى جملة من المبادئ العامة في تعاملها مع الداخل الإسلامي، ومن ذلك:
أولا: مبدأ التفتيت، وهو يعني العمل قدر المستطاع على تجزئة عناصر الجسد السياسي الإسلامي بحيث يتحول إلى عناصر متمايزة بعضها عن بعض، وهو ما يعني امتلاك كل منها إدراكا مختلفاً ورؤى وتصورات متباينة. بيد أن هذا التنوع والتعدد يخفي في حقيقة أمره تناقضاً أساسياً ربما يدفع إلى الصدام والعداوة. وتظهر الخبرة التاريخية أن السياسة الفرنسية استخدمت مفهوم الأقليات في الدول الإسلامية بهدف إضعاف النخب الحاكمة التقليدية، بل اعتباره مدخلا للتفتيت والتجزئة. ويذكر العلامة الراحل الدكتور حامد ربيع أن السياسة الأمريكية تتبنى الأدوات التالية لتفتيت العالم العربي: تشجيع الشعوبية, بمعنى إحياء القوميات والعصبيات, تدعيم مفهوم الولاء الطائفي ـــ بمعنى إذكاء الصراع بين أبناء الأمة ـــ مسلمين ونصارى ورعاة ورعية, مساندة الزعامات المهلهلة ودفعها إلى مواقع السلطة, خلق طبقات منتفعة طفيلية, استخدام أساليب التسميم السياسي, الأبحاث الميدانية الأمريكية ودورها في خدمة هذه السياسات.
ويلاحظ أن إحدى اللحظات الكبرى في تطور النظام الدولي ارتبطت بخضوع العالم الإسلامي للهيمنة الغربية، التي كانت الحملة النابليونية على مصر عام 1798 علامة على بداية اكتساح العالم الإسلامي وتقسيمه بين القوى الاستعمارية الكبرى. على أن الاستقلال عن المستعمر أفضى إلى استكمال حلقات تقسيم وتفتيت العالم الإسلامي وإعادة صياغته من الناحية الجيوستراتيجية وفقا لخرائط وتقسيمات جديدة. بيد أن التطور الأخطر في هذا السياق تمثل في زرع كيان جديد في موضع القلب منه بهدف حل المسألة اليهودية في العالم، والتأكيد في الوقت ذاته على مبدأ تفتيت الجسد الإسلامي بصورة دائمة.
ثانيا: مبدأ شد الأطراف: يأتي هذا المبدأ ليعبر عن فلسفة ومنطق التفتيت ويكملها في آن واحد. وطبقاً لأستاذنا العلامة حامد ربيع فإن شد الأطراف يعني في جوهره: ''خلق حالة شلل في الأطراف، الأمر الذي يترتب عليه عدم قدرة الجسد على الحركة بكامل قدراته''. ومما يساعد على تطبيق هذا المبدأ اتساع رقعة العالم الإسلامي الذي يمتد من تركيا حتى إندونيسيا مرورا بإيران وباكستان وأفغانستان ومن المحيط الأطلنطي حتى الخليج العربي. وعلى الرغم من وحدة الدين والمعتقد التي تجمع بين أواصر هذه الدائرة الإسلامية الواسعة المترامية الأطراف، فإن إعمال مخطط التفتيت أدى إلى جعل أطراف تلك الدائرة تمثل مصالح متمايزة، بل ربما في بعض المواقف متناقضة، وهو ما يجعل مسألة اجتذابها من جانب قوى خارجية مسألة سهلة المنال.
وتجسد هذا المبدأ ــــ على سبيل المثال ــــ في مناطق التماس العربية ــــ الإفريقية مثل حالتي جنوب السودان وثورة الطوارق في مناطق ساحل الصحراء الإفريقية. ويرجع منطق التفتيت هنا إلى خلق مراكز للجذب الإقليمي, حيث إنه لا يعزى إلى عدم التجانس الديني. ولا يخفى أن السياسة البريطانية تحديداً برعت في تطبيق هذا المبدأ وقامت بصياغة تقاليده الاستراتيجية.
ثالثا: مبدأ الإحاطة والعزلة: وهو يسعى إلى خلق كيانات قومية متباعدة من حيث مدركاتها الفكرية والأيديولوجية، وسرعان ما تجد هذه الكيانات نفسها وحيدة في لحظات الصدام العضوي دون نصير خارجي أو قوى دولية متعاطفة أو مؤيدة لها، ولو من حيث المساندة المعنوية. ويسعى هذا المبدأ إلى إفساد السياسات الإقليمية بما يشتمل عليه من تفاعلات وتحالفات بهدف عزل وإحاطة بعض القوى الإسلامية الفاعلة. ولعل محاولات فصل الدائرة الإسلامية الكبرى وتحويلها إلى دوائر أصغر تبدو متناقضة مثل الدائرة العربية في مواجهة الدائرة الإفريقية خير دليل على ما نقول. وتعطي الحالة السودانية ــــ كما بينا ــــ نموذجاً واضحاً لتطبيق هذا المبدأ، فقد تم احتواء السودان وعزله تارة بحجة رعايته الإرهاب, وتارة أخرى من خلال تفجيره من الداخل من خلال تصوير نزاعاته الداخلية في دارفور باعتبارها صراع هويات: الإفريقية في مواجهة العروبة. ولا شك أن تطبيق هذا المبدأ يزيد من فاعلية منطق التفتيت وشد الأطراف في التعامل مع الجسد الإسلامي المستهدف.
التقاليد الإسرائيلية في تفتيت العالم الإسلامي
ومن اللافت للنظر أن الدبلوماسية الإسرائيلية تبنت المبادئ والمنطق نفسه الذي قام عليه مخطط التفتيت في التعامل الحركي مع العالم الإسلامي. فالفكر الاستراتيجي الإسرائيلي في توظيفه لمسألة الأقليات في العالم الإسلامي اعتمد سياسة شد الأطراف ثم بترها. يعني ذلك في جوهره مد الجسور مع الأقليات وجذبها خارج نطاقها الوطني والحضاري، ثم تشجيعها في مرحلة لاحقة على الانفصال، وهذا هو المراد بالبتر.
في عام 1982 نشرت مجلة ''كيفونيم'' التي تصدر بالعبرية وتعد لسان حال المنظمة الصهيونية العالمية مقالاً مهماً يعد وثيقة في حد ذاته تحت عنوان ''استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات'' وهي تهدف إلى تقسيم المنطقة العربية إلى دول صغيرة, إضافة إلى تفكيك الدول القائمة وتفتيتها. على سبيل المثال فإن هذا المخطط الصهيوني يرمي إلى تفتيت مصر من خلال إنشاء دولة قبطية في الجنوب. وستقتفي دول عربية أخرى أثر مصر مثل ليبيا والسودان الذي سينهار بدوره لينقسم إلى دويلات صغيرة.
ومن الجدير بالنظر حقاً أن هذه الخطة التي نشرت أوائل الثمانينيات، أي قبل الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله عام 2003 تشير إلى أن تفتيت العراق وسورية إلى مناطق ذات خصوصية إثنية ودينية، على غرار لبنان، هدف استراتيجي من الدرجة الأولى، ونظراً لأن العراق أقوى من سورية وقوته تشكل على المدى القصير خطراً على إسرائيل أكثر من أي خطر آخر، فإنه يعد المرشح الأقوى لتحقيق أهداف إسرائيل, يعني ذلك أن تفتيت العراق أكثر أهمية من تفتيت سورية.
وينطلق الفكر الصهيوني من قناعة راسخة بأن العالم العربي تتنازعه الانقسامات العرقية والطائفية والدينية ومن ثم يصبح من السهل اختراقه وإضعافه من الداخل من خلال التآمر عليه مع تلك الأقليات وتشجيعها على التمرد وإقامة دويلات منفصلة قد ترتمي في أحضان كيانات إقليمية أخرى غير عربية. ترى إسرائيل أن وجود تلك الدويلات التي تحكمها أقليات دينية أو ثقافية الوسيلة المثلى لإنهاك الوطن العربي من الداخل ومن ثم يسهل تجزئته وتفتيته.
وتشير الأدبيات الإسرائيلية إلى أن الكيان الصهيوني كان له دور بارز منذ البداية في تشجيع ودعم الحركات الانفصالية في جنوب السودان. ففي كتاب العميد موشيه فيرجي ''إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان'', الذي صدر عن مركز ديان لدراسات الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب عام 2003 تسجيل وثائقي للتفاعلات الإسرائيلية في منطقة شرق إفريقيا منذ خمسينيات القرن الماضي، أي بعيد إعلان قيام دولة إسرائيل بفترة قصيرة.
لقد استغلت إسرائيل دول الجوار الإقليمي للسودان مثل أوغندا وكينيا وإثيوبيا والكونغو الديمقراطية بهدف إقامة المعسكرات لتقديم الدعم والتدريب والأسلحة للمتمردين في جنوب السودان منذ حركة ''أنيانيا'' التي قادت التمرد في مرحلته الأولي (1955 ــــ 1972) والحركة الشعبية لتحرير السودان خلال الفترة (1983 ــــ 2005). واستقبلت إسرائيل عديدا من قادة التمرد وعلى رأسهم الراحل جون قرنق, حيث زودتهم بالمال والعتاد. وكان جليا أن الدعم الإسرائيلي للحركة الشعبية لتحرير السودان قد ازداد من حيث الكم والكيف في منتصف التسعينيات بحيث شمل المجالات كافة, ولا سيما التدريب والتسليح وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
وفي اعترافات مثيرة أكد الجنرال عاموس يادلين رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية العام الماضي أثناء حفل تسليم مهام منصبه, أن إسرائيل قامت بدور بارز في السودان, حيث كان الهدف الاستراتيجي حصار مصر وتطويقها عبر البوابة السودانية.
وفي اعتقادي فإن إحدى التداعيات الكبرى لانفصال الجنوب السوداني ستتمثل في إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية الكبرى بحيث يصبح جنوب السودان المستقل قاعدة انطلاق للسياسة الإسرائيلية والغربية في مواجهة دول الجوار العربي والإسلامي. وتشير الدلائل الواقعية إلى أن إسرائيل بدأت بالفعل في اختراق حكومة جنوب السودان سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة, وأن زعيم الحركة الشعبية ورئيس حكومة الجنوب الفريق سلفا كير أعرب في أكثر من مناسبة عن رغبته في تطوير علاقات وثيقة مع الكيان الصهيوني.
ويبدو أن طبيعة التحالفات الجديدة في منطقة شرق إفريقيا بعد إعلان استقلال جنوب السودان وانضمامه إلى التكتل الاقتصادي الذي أعلنته كل من تنزانيا وأوغندا وإثيوبيا وكينيا عام 1999 ستفضي لا محالة إلى النيل من مكانة مصر الإقليمية مقابل دعم وترسيخ الدور الإثيوبي المتصاعد في المنطقة. ولعل ذلك يضفي مزيدا من التعقيد على أزمة مصر المائية التي شهدت تحولا فاصلا في مواقف دول منابع النيل, التي رفضت النظام القانوني السائد منذ العهد الاستعماري الذي يكفل الحقوق التاريخية المكتسبة لمصر في مياه النيل. وإذا أخذنا في الاعتبار تفتيت الصومال إلى عدة دويلات مثل أرض الصومال وبونتلاند وإمارة شباب المجاهدين لاتضح لنا بجلاء مدى التهديد الذي يواجهه مفهوم الأمن القومي العربي.
إن إعلان دولة جنوب السودان المستقلة بات أمراً مقبولاً بالنسبة للقوى الدولية الضاغطة, ولا سيما أن مثل هذه الدولة تسيطر عليها نخبة مسيحية ذات توجهات إفريقية بما يؤدي إلى تقويض المشروع الحضاري الإسلامي الذي يرفعه المؤتمر الوطني الحاكم في السودان. ولذلك نرى أن حالة انفصال جنوب السودان واستقلاله يؤكد أن مخطط تفتيت وتجزئة العالم العربي والإسلامي يجري على قدم وساق، وأن مستقبل المنطقة، لو تركت الأمور على ما هي عليه، ينذر بكارثة لا تحمد عقباها. ولعل قراءة الوضع الراهن تفيد بأن بعض أجزاء الدائرة الإسلامية أضحت مسرحاً للنفوذ الأمريكي وبتعاون كامل مع الهيمنة الإسرائيلية، أما باقي المناطق فإنها ستخضع لمفهوم التفتيت والتجزئة الطائفية والعرقية.
ما العمل إذن؟ سؤال ينبغي أن نوجهه لأنفسنا حتى نمارس مهمة الفعل الاستراتيجي ونفكر من أجل المستقبل متسلحين بأدوات تمكننا من مواجهة هذه المخططات التي تنال من وحدة الأمة العربية والإسلامية. إن مقدمات التفتيت والتجزئة تبدو واضحة للعيان في كل من اليمن والعراق وبلاد المغرب العربي. كما أن أصوات الاحتجاج الرافضة للظلم الاقتصادي والاجتماعي لا تخلو منها دول عربية وإسلامية كثيرة .. فهل نستمر في البكاء على أطلال الأندلس وجنوب السودان أم نحاسب أنفسنا أولا وننظر إلى الأمام؟ هذا هو التحدي.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق