أحمد عثمان
أطلق الملك عبد الله بن عبد العزيز مبادرة جديدة للحوار بين الثقافات، حتى يتم التواصل والتفاهم بين شعوب العالم - مما يمكنها من التعايش سلميا في ما بينها وحل مشكلاتها عن طريق التفاهم بدلا من الصراع. وقد وافق مجلس الوزراء السعودي في جلسته المنعقدة في 13 يوليو (تموز) الماضي على تفويض وزير التربية والتعليم بالتباحث مع منظمة اليونيسكو في شأن إبرام اتفاق لإنشاء برنامج باسم «برنامج عبد الله بن عبد العزيز العالمي لثقافة الحوار والسلام». وبالفعل شرع الدكتور زياد بن عبد الله الدريس، مندوب السعودية الدائم لدى اليونيسكو، في إعداد مسودة البرنامج لعرضه للمناقشة في الهيئة العالمية للثقافة. وليست هذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها الملك عبد الله إطلاق الحوار بين العالم الإسلامي والغرب، فقد سبق له قبل عامين أن دعا إلى مؤتمر عالمي للحوار بين الأديان، انعقد في مدريد عاصمة إسبانيا في يوليو 2008، وشارك فيه نحو 200 شخصية من رجال الدين المسلمين والمسيحيين واليهود. ثم دعا الملك عبد الله بعد ذلك إلى مؤتمر دولي ثان لحوار الأديان، انعقد هذه المرة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008، وشارك فيه مندوبون يمثلون أكثر من 80 دولة.
وفكرة حوار الأديان ليست جديدة، حيث بدأتها الكنيسة الكاثوليكية منذ ستينات القرن الماضي، ودعا الفاتيكان إلى عدة مؤتمرات للحوار يتلاقى فيها رجال الدين المسيحيون مع نظرائهم من المسلمين واليهود، لتبادل الآراء حول تراثهم الديني، ويحاول كل منهم فهم الآخر - بهدف الوصول إلى تعايش سلمي ونبذ الصراعات العقائدية. ومع أن هذه المؤتمرات كان لها أثر طيب في التقارب بين رجال الدين، فإن هذا التقارب لم ينعكس على موقف الملايين من الناس الذين ظلوا بعيدين عن محور النقاش.
وازداد التباعد بين الشعوب والأديان بعد الهجمات التي قامت بها «القاعدة» على نيويورك وواشنطن في سبتمبر (أيلول) 2001. ولما كانت الهجمات التي قامت بها «القاعدة» في أماكن مختلفة من العالم تتم في كل مرة باسم الجهاد الإسلامي، فإن هذا السلوك صار يطرح السؤال عن طبيعة الإسلام وتعاليمه. وصارت هذه الأعمال التي يقوم بها الانتحاريون تركز اهتمام العالم على الإسلام وعلى طبيعة الدين والعقيدة الإسلامية. فبينما يعتقد البعض أن عمليات اختطاف الطائرات واحتجاز الرهائن ونسف المباني وقتل السائحين هي عمليات للجهاد ترتكب دفاعا عن الإسلام، فإن الغالبية العظمى من المسلمين تنظر إلى هذه الأفعال على أنها جرائم ترتكب إثما باسم الدين الإسلامي الحنيف، وتسيء إلى المجتمع الإسلامي بأجمعه. وأصبحت أصوات الإرهابيين وصورهم هي التي تنشر في وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم، تتحدث باسم الإسلام، وتبرر جرائمها باسم الإسلام. وبدا وكأن الانتحاريين الذين يهددون الأبرياء في كل مكان في العالم، هم الذين يتحدثون للعالم باسم الدين الإسلامي الحنيف.
وقد أدى هذا الوضع ببعض المفكرين الغربيين إلى القول بأنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأفول الحركة الشيوعية، حل الإسلام والأصولية الإسلامية مكانهما كمصدر تهديد للحضارة الغربية ولأسلوب الحياة الغربي. وذهب صمويل هنتنغتون - الذين كان قبل وفاته عام 2008 أستاذا لعلم الحكومة في جامعة هارفارد الأميركية - إلى أن السياسة الدولية دخلت مرحلة جديدة الآن، صارت فيها الانقسامات الكبيرة بين البشر التي تسبب الصراعات ليست ذات طابع آيديولوجي عقائدي أو اقتصادي، بل طابع ثقافي. وتنبأ هنتنغتون بأن الصراعات بين الحضارات سوف تسيطر على السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين، وتسير على خطوط التصدع التي تفرق بين حضارة وأخرى. كما وصل برنارد لويس - وهو باحث غربي آخر في الدراسات الإسلامية - إلى نتيجة مشابهة: «هذا هو.. صراع الحضارات الذي ربما يكون غير معقول، لكنه بالتأكيد رد فعل تاريخي لمنافس قديم ضد تراثنا اليهودي المسيحي، لحاضرنا العلماني، ولنمو كليهما عالميا» (أصول الغضب الإسلامي، مجلة «أتلانتك منثلي»، العدد 266، سبتمبر 1990).
إزاء هذا الوضع أدرك عاهل السعودية ضرورة دخول المعركة الحضارية دفاعا عن الإسلام وقيمه الإنسانية، والدعوة إلى اللقاء والتفاهم بدلا من الحرب والصراع. فالمملكة السعودية، إلى جانب كونها مركز الثقل في العالم الإسلامي، فهي كذلك الأرض التي منها خرجت الدعوة الإسلامية منذ نحو 14 قرنا، وهي التي تملك الحق في تصحيح الصورة الشاذة التي رسمها الإرهابيون للإسلام.
ورغم أن رجال الدين ورجال السياسة اتفقوا جميعا في مؤتمراتهم على رفض استخدام الدين لتبرير الأعمال الإرهابية وقتل المدنيين الأبرياء وأعمال العنف والإكراه، فإن الشعوب في مختلف الدول - بما في ذلك الدول العربية نفسها - ظلت بعيدة عن المشاركة في حوار المؤتمرات، واستمر سوء الفهم سائدا بينها. وصارت غالبية الشعوب الغربية تنظر بريبة وتخوف إلى المهاجرين المسلمين الذين يقيمون على أرضها، كما أصبح المسلمون أنفسهم في حيرة من أمرهم تجاه من يفرض عليهم معارك مفتعلة، ليست لديهم رغبة في دخولها. عندئذ أدرك الملك عبد الله بفطرته ضرورة الإمساك بزمام المبادرة ومحاولة الوصول إلى الجماهير مباشرة، عن طريق الثقافة. فالمثقفون ورجال الإعلام هم وحدهم القادرون على الوصول إلى رجل الشارع في بلدانهم، وإشراك الجماهير في حوار الثقافات وضرورة التعايش بينها. الثقافة هي الأرضية الخصبة التي يمكن عن طريقها إحداث تفاعل حضاري يوحد بين أبناء البشر، مهما كانت عقائدهم ودياناتهم.
ليس علينا الاكتفاء بتمني نجاح المبادرة السعودية الجديدة، بل على كل فرد منا أن يدخل المعركة الثقافية دفاعا عن قيم الإسلام الحضارية، ودفاعا عن وحدة الحضارة البشرية التي ننتمي إليها. لا نريد حوارا مغلقا في مؤتمرات، وإنما نريد تفاعلا حضاريا في الشوارع ووسائل التعليم والإعلام، حتى يكتب النجاح لمبادرة خادم الحرمين الشريفين.
* كاتب مصريhttp://aawsat.com/details.asp?section=44&article=584671&issueno=11599
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق