الثلاثاء، 21 ديسمبر 2010

قراءة في مجلة"عالم الأديان" الفرنسيّة

محمد صلى الله عليه وسلم.. ذلك المجهول!
 علي بوراوي
إسلام أون لاين - باريس


    خصّصت مجلة "عالم الأديان" الفرنسية، في عددها قبل الأخير (العدد43) ملفا مهما عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، حمل عنوان "محمد.. ذلك المجهول"، تضمّن 25 صفحة موزّعة على ثماني مواد. وقد ساهم في هذا الملف عدد من الباحثين المسلمين.

وقد تناول جوانب مختلفة من شخصية الرسول الكريم ورسالته: أصوله وحياته قبل البعثة وبعدها، والفترة المكية من دعوته، والفترة المدنية، وعلاقته ونظرته إلى المرأة، ومكانته في تصوّر الحركات الإسلامية، وصورته في كتابات الباحثين الغربيين، خصوصا المتدينين منهم.

التاجر البدوي

تناول صالح ستيتية - وهو سفير لبناني سابق في كلّ من هولندا والمغرب واليونسكو- في بحثه "محمد التاجر البدوي" شخصية الرسول في نسبه ومكانة أسرته وخلقه في قومه. وتناولت جاكلين شابي، أستاذة الدراسات العربية في جامعة باريس الثامنة، في مقال يحمل عنوان "رجل العشيرة والقبيلة" البيئة القبلية التي عاش فيها الرسول، وركّزت على قضية التوحيد التي حلّت محلّ تعدّد الآلهة عند أهل مكّة، وأنّها تعتبر الله وحده القادر على قضاء حاجات الإنسان الدنيوية ومجازاته في الآخرة، وفق التصور الإسلامي.

وبحث دراجي عيادي، مستشار المعهد اليمني للدراسات الشرق أوسطية، مسألة "الوحي في الفترة المكية"، بداية من تعبّد الرسول في غار حراء. وتحدّث عمّا عاناه معتنقو الدين الجديد من تنكيل ومحاصرة من قريش. كما تناول العراقيل التي اعترضت الرسول ومن تبعه من أهل مكّة، وكيد كبراء قريش لهم بعد فشلهم في ثنيه عن دعوته بالمال والجاه. ونظرا لكون مكّة ملتقى طرق التجارة في جزيرة العرب، فإنّ محمدا استفاد منها في نشر دعوته بين الناس. وهو ما ساعده في وجود ملجأ للمسلمين في يثرب (المدينة)، التي هاجر إليها وجعلها قاعدة لنشر الإسلام وتأسيس دولته.

لكن الباحث في توصيفه للدين الجديد، استعمل مصطلحات كثيرة تحيل على الثقافة الكنسية، وهو ما قد يفوّت على القارئ فرصة فهم وتصوّر للإسلام مستقلّ عن الثقافة الكنسية السائدة. كما اعتمد ترجمة قديمة لمعاني القرآن في ترجمة معنى الآية "خلق الإنسان من علق" بما ترجمه البعض "خلق الإنسان من دم متجلّط".

الفترة المدنيّة

بحث محمود حسين، الباحث في القضايا السياسية والإسلامية حول "الفترة المدنية وانتصار الإسلام" كان من أفضل بحوث الملف، لما احتواه من معلومات وافية توافق رواية المسلمين للسّيرة النّبوية الشريفة، وتستقيم مع فهم المؤمن بهذا الدين وتعاليمه. فبيّن فيه أنّ الرسول عرف نقلة نوعية بعد نزول الوحي عليه، وأنّ رسالة التوحيد التي حملها نقلت عرب الجزيرة العربية من الوثنية إلى التوحيد، ووسّعت أفقهم الفكري إلى أبعاد التاريخ الكونيّ. كما سوّت في المسؤولية بين الرجل والمرأة، ونقلتهم من العصبية القبليّة والتناحر إلى الكيان الموحّد.

وفصّل الباحث في وصف حالة العرب قبل البعثة، والتغييرات التي حصلت في أسلوب تفكيرهم وعيشهم بعد أن ساد الإسلام. وقال إنّ الإسلام منح العرب رؤية عقائدية وفكرية عالية، وأنّ المسلمين فتحوا الباب للعالم كلّه، وللناس جميعا، للمشاركة في هذه العقيدة.

والرسول صلى الله عليه وسلّم، كان يحترم كلّ فرد من الصّحابة، رجلا كان أو امرأة، سيدا أو عبدا، غنيا أو فقيرا. فهو يرى في كلّ واحد منهم، واحدا من خلق الله. وكان قبل أن يتّخذ أيّ قرار، يبادر بالتشاور مع أصحابه، ويناقشهم، وكثيرا ما كان يغيّر رأيه ويعتمد رأي واحد من أصحابه إذا رآه وجيها. أمّا في الأوقات الصعبة، وفي الحرب، فكان لا يتأخّر ولا يعرف الخوف. لهذا استطاع أن ينسج شبكة علاقات متينة، وأن ينجح في تحالفاته. وهكذا انتصر في دعوته. ومن حيث رساليّته صلى الله عليه وسلّم، كان يميّز جيّدا بين كلام الله وكلام البشر، بما في ذلك كلامه هو.

الرسول الذي أحبّ النّساء

البحث الذي شاركت به ليلي أنفار Leili Anvar ، أستاذة الأدب واللغات الشرقية، حول علاقة الرسول محمد بالنساء، ورؤيته لهنّ، كان موفّقا وشافيا. تقول إنّه عاش في مجتمع أبويّ، ولكنّه رغم ذلك لم ينتقص النّساء، بل إنّ الإجراءات التي اتخذها بخصوص المرأة كانت تعتبر ثورية. فهنّ يتحاورن بكفاءة مع أزواجهنّ، ومتساويات معهم في العقيدة.

وتذكّر الباحثة بوضع المرأة في جزيرة العرب في القرن السابع للميلاد، قبل بعثة النبي. فتقول إنّ إنجاب بنت وقتها،كان يعتبر عارا، وغالبا ما توأد البنت، فإذا أفلتت من الوأد، فلا قيمة لها في المجتمع. وجاء النص القرآني فحرّم وأدها بشكل حاسم. وتؤكد الباحثة أنّ الرسول عبّر عن حبّه للنساء في فعله وخطابه، والتشريعات التي جاء بها؛  وأن زوجات النبي كن ناشطات في مختلف مجالات الحياة.

وتؤكّد الباحثة أن أسس الأسرة التي بناها الإسلام، هي الانسجام والتعاون بين الزّوجين. وأنّ الإسلام جعل المرأة سكنا للرجل، وأعلن أنّها تساوي الرجل في العقيدة، وعليها من الواجبات ولها من الحقوق مثل ما على الرجل، وهو ما يجعل رؤية الإسلام للمرأة وطبيعتها، ثورية من دون شك، لأنّه أعطاها دورا كاملا وصفة قانونية بيّنها القرآن وأكّد عليها، وعلى ضرورة حمايتها، وأعطاها حق الميراث، في وقت لم يكن ذلك مطروحا أصلا. وإذا كانت المرأة ترث نصف الرجل، فإنّها معفاة من واجب الإنفاق على الأسرة، وأنّ ما تحصل عليه من إرث أو عمل، هو ملكها وحدها، لاحقّ لغيرها فيه.

أمّا بخصوص تعدّد الزوجات، فأوضحت الباحثة أنّه كان قبل الإسلام مفتوحا وبدون قيد، وجاء الإسلام وأباح تعدّد الزوجات عندما تكون هناك ضرورة اجتماعية. وأضافت أنّ التّمعّن في النص القرآني، يحيل إلى التشديد في إباحة التعدد، بشكل يجعله صعبا.

وتختم الباحثة مشاركتها بالقول: لكن بعد وفاة الرسول، عاد المجتمع إلى أبويّته، وعاد انتقاص النّساء، وظلمهنّ. وتضيف: صحيح أنّ الوأد قد اختفى، ولكن ظهر في المجتمع وأد من نوع آخر، وأد وراء خمارات سميكة في بيوتهنّ، وقرون من الصّمت والغياب.

النبي ونشأة القرآن

في بحث كتبته جاكلين شابي Jacqueline Chaabi ، حول تشكيل الصورة النبوية في أذهان المسلمين، هناك مغالطات كثيرة وخطيرة. والغريب أنّ التدقيق العلمي الذي طبع معظم بحوث هذا الملف، غاب تماما عن هذا البحث الذي احتلّ ثلاث صفحات من الملفّ. فهي تقول إنّ التراث الإسلامي كتب أوّل مرّة "بعد وفاة الرسول محمد بقرن ونصف أو قرنين كاملين". وتضيف "أساطير خيالية، تزيّن شيئا فشيئا ما سيصبح نوعا من التاريخ المقدّس، الذي يرى في محمد مبعوثا يكمل رسالة من سبقه" ص 34.

وتضيف قائلة "بعد الهجرة إلى المدينة، وللمرّة الأولى، يتقمّص محمد لقبا كان القرآن خصّ به الشخصيات الإنجيلية. فأصبح (نبيّا) و (رسول الله). كما ظهرت للمرّة الأولى تسمية (اليهود) و (النصارى) و (أهل الكتاب)"! ص 35 . هكذا كتبت الباحثة دون أن توثّق كلامها بأيّ مصدر أو دليل! وهو كلام يدفع إلى التّساؤل: هل حاولت الباحثة قراءة سور قليلة من القرآن؟ وهل اطّلعت على شيء ولو يسير مما كتبه المسلمون والباحثون المنصفون بخصوص جمع كتاب الله ؟

كما نشرت المجلّة فقرة قصيرة وضعتها في صدر الصفحة 36 وتحمل إمضاء ج.س (J.S) تتضمّن مغالطات خطيرة بخصوص كتابة القرآن وجمعه. فهي ترجّح - هكذا تلجأ الباحثة أو الباحث إلى الترجيح! -  بأنّ النصوص القرآنية التي نزلت على الرسول، كان قد حفظها أقرباؤه. وتستشهد في هذا المقام بأنّ التراث الإسلامي يؤكّد أنّها كانت "في صدور الرجال". وتضيف: ولكن كانت للعرب طريقتهم في التدوين. لذلك، من المرجح أيضا أن تكون هذه النصوص قد نقلت كتابة أيضا خلال حياته، لأنّ الرسالة القرآنية تقدّم نفسها بأنّها "مكتوبة". وتضيف "إنّ نصوص هذا التراث، تدفع إلى التفكير بأنّ الجهود التي بذلت بعد وفاة الرسول، سمحت بجمع مقاطع أكثر أو أقل اكتمالا للرسالة القرآنية، وتفاعلت في نفس الوقت لتوحيد المحتوى".

لقد نقلت المجلّة قارئها بخصوص مسألة كتابة القرآن وجمعه، إلى استنساخ الحيرة والقلق المسيحيين بخصوص نصوص الإنجيل، وحاولت نقله إلى السّاحة الإسلامية. فهل استعصى على هؤلاء القبول بما يؤكده البحث العلمي الدقيق من أنّ المسلمين احتفظوا بنصّ القرآن كاملا كما نزل على محمّد؟ أم خانتهم وسائلهم في البحث؟

نموذج سياسي للإسلاميين

في حوار أجرته المجلة مع الباحثة مليكة الزغل الأستاذة في جامعة هارفارد الأمريكية، تناول شخصية الرسول في رؤية الحركات الإسلامية، وكيف أنّها تجعله نموذجا لتغيير مجتمعاتها، وخوض معارك الإصلاح فيها، تؤكّد الباحثة أنّ الإسلاميين- على اختلاف تياراتهم- يعتبرون فترة حياة الرسول - وليس أية فترة أخرى- فترة نموذجية للنسج على منوالها، وأنّ نصوص القرآن والحديث النبوي، هي الوحيدة في استنباط الأحكام والتشريعات، وأنّها كفيلة وحدها بوضع أسس المجتمع الحديث، في مختلف نواحي الحياة.

وتعتبر الباحثة أنّ الحركات الإسلامية المعاصرة، امتداد طبيعي ومنطقي لحركات الإصلاح السلفية التي شهدها العالم الإسلامي خلال القرنين الماضيين. كما ترى أنّ الحركات الإسلامية التي تنشط في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، سواء الحركات السلفية أو  الإخوانية، أو الجهادية، وكذلك جماعة التبليغ وحركة العدل والإحسان في المغرب، وحزب العدالة والتنمية في كلّ من المغرب وتركيا، وغيرها من الحركات والأحزاب الإسلامية، تنهل من نفس الرؤية، وتصبّ الواحدة في الأخرى.

ورغم أنّ الباحثة تبدو مطلعة على فكر ورؤى الحركات الإسلامية، فإنّها تضعها جميعا في نفس الخانة، وكأنّ الذي يهمّها في التصنيف، هو مدى ارتباطها برسول الإسلام ورسالته فقط، وليس مدى انسجامها مع الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي تعيش فيه، وقدرتها على التعايش مع الآخر والقبول به وبحقوقه. فهل يبحث المُحَاوٍر أو الباحثة، أو كلاهما، عن حركة إسلامية، تلغي نبوّة محمد ورسالة الإسلام كدين خالد؟

رسول شيطنه الغرب

هكذا عنْوَنَ الباحث مالك شبل، بحثه المتعلّق بطريقة تناول الخطاب الديني الغربي لشخصية الرسول. وأورد المتخصّص في قضايا الإسلام وعقيدته فقرات كثيرة، لرجال دين وباحثين من الحقل الديني الغربي، على اختلاف تياراته ونحله، تجمع على عداء رسول الإسلام، ورميه بأوصاف نابية وعنيفة. ويرجع سوء الفهم هذا، إلى أنّ الإسلام قدّم محمدا على أنّه رسول الله، وليس ممثلا لله في الأرض، أو ابنه.
وبعد أن أورد الباحث شهادات عدد غير قليل من هؤلاء، تقدح في شخصية الرسول وخلقه، قال إنّ هذه التهم، وبغضّ النّظر عن كونها مبرّرة أو غير مبرّرة، فإنّ سوء التفاهم مستمرّ في جانب منه، منذ خمسة عشر قرنا.

لقد توزّعت مواد هذا الملفّ "محمد ذلك المجهول" بين إنصاف رسول الإسلام، وتقديم صورة توافق رؤية المسلمين له، وقدح غير مبرّر في نصّ القرآن، من خلال الإيحاء والتشكيك في طريقة حفظه وجمعه، وبحث عن مسلمين يرفعون راية الإسلام ويعتبرونه خلاصا للبشرية من الضياع، ولكنهم يعتبرون سيرة الرسول ونصوص القرآن، مجرد مرجع عادي مثل غيرها من المراجع الأخرى، في تنظيم حياتهم وتدبير شؤونهم.

وهكذا يتأكّد أنّ العنوان الذي حمله الملف حقيقة نعيشها، وأنّ التعريف بمحمد ورسالته، بحاجة إلى جهود كثيرة، جهود علمية وأخرى من واقع الحياة تعيد لهذه الرسالة مكانتها.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق