| |||||||
أكد فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة ـ المشرف العام على مؤسسة "الإسلام اليوم" ـ أن العالم الإسلامي يعيش اليوم ظروفًا استثنائية، مشيرًا إلى أننا طالما تحدثنا عن دول العالم الإسلامي بحديث التخلّف والفقر والبؤس والجهالة والاستسلام والقبضة الأمنية، ولكن ها هي واحدة بعد الأخرى تحاول أن تزيل التراب والغبار عن جسدها الطيب، وتسعى لأن تتنسم عبير الحرية والمجد، وأن تستجيب لدواعي الإنقاذ والإصلاح. وقال الشيخ سلمان ـ في محاضرة له في مؤتمر الإبداع الأسري يوم الأحد الماضي بالكويت : إن ما حدث في تونس وما يحدث في مصر الآن يمثل شيئًا مدهشًا، فميدان التحرير قديم ومعروف منذ زمن طويل، حيث كانت المظاهرات أسلوبًا مستخدمًا للتعبير عن الرأي في السابق، لكن دون جدوى؛ فقد خرج في السابق مئات وعشرات الآلاف في مسيرات احتجاجًا على الرسوم الدنمركية المسيئة، أو احتجاجًا على غزو العراق، أو أفغانستان، أو العدوان على غزة، ثم عادوا أدراجهم وكأن شيئًا لم يكن، حيث كان مجرد تعبير أو تنفيس عن الغضب، ولكن هذه المرة تغير الأمر. روح جديدة وأضاف الدكتور العودة أن البؤس والفقر والجهل والتخلف هي مفردات معروفة لنا في ظل شعوب تعيش في أحياء شعبية، بل تعيش في المقابر، وقد رأينا جميعًا هذا المشهد الذي لا يوجد في العالم كله إلا في القليل من البلاد الإسلامية التي أصبح الأحياء فيها يعيشون بين القبور، موضحًا أن المؤامرات الخارجية قديمةٌ وكذلك الصراعات الداخلية. وتابع فضيلته: ولكن دعونا نتفاءل أن روحًا جديدة تسري في هذا الجسد، وأن شبابًا بعيدًا عن الجمع والطرح والضرب والقسمة والحسابات الطويلة العريضة، التي أثقلت كواهل النخب والقادة والأحزاب والمجموعات، بدأ يتحرك، فهؤلاء الشباب الجدد هم شباب الفيس بوك وتويتر وشباب الإنترنت والذي ربما يعبر تعبيرًا عفويًا عن طموحه وتطلعه واستشرافه للنهوض والمجد والحضارة والحرية والحقوق، سواء كانت حقوقًا سياسية أو اقتصادية، مما يدعونا إلى التفاؤل. سرٌّ معجز وأوضح الشيخ سلمان أن البساطة في الشعارات التي تُرفع، وفي التعامل مع الأحداث، إضافة إلى البساطة في الحضور، والتنظيم، هو السر المعجز، مشيرًا إلى أنه حينما تدخل الأحزاب أو التنظيمات أو البرامج العملية المعدّة ربما تبهت الصورة، لكن حينما ينطلق الشاب بعفويته ويعبر عن إحساسه تجد أنه يحظى باحترام الجميع؛ الحاكم والمحكوم والقريب والبعيد، مشيرًا إلى أنه لمثل هؤلاء نقدّم التحية، ولمثلهم نذكّر بالدعاء، ولمثلهم نقول: كنانة الله لا يأس ولا وهن *** فلا تبيتي على يأس وتنتحبي كم أنبتت دوحة الإسلام من بطل *** وأطلعت في بهيم الليل من شهب ! الهوية.. والوعي بالذات وفيما يتعلق بموضوع المحاضرة، والتي خصصت للحديث عن "الهُوية"، قال الشيخ سلمان: إن الهوية مأخوذة من الهوى، فهي تعبير عن ماهيّة الإنسان وعن حقيقته وجوهره، والقدماء من العرب كانوا يتحدثون عن الهوية، فهي ليست لفظة جديدة، ولكن الفلاسفة واللغويين، كالجرجاني وابن رشد والفارابي وغيرهم، تحدثوا عن هذا المعنى الذي هو تعبير عن حقيقة الإنسان أو المجتمع، لافتًا إلى أن المقصود بهوية الإنسان هو وعي الإنسان بذاته، فالوعي بالذات يعدُّ ميزة وخصيصة للإنسان؛ فهو الذي يعرف ذاته ويميزها عن الآخرين، وذلك بخلاف الحيوان والذي لا يميز ذاته، ويقول علماء الحيوان: إن الدلفين ربما يشعر شيئًا ما بالذات، حيث يلاحظ صورته في الماء أو صورته في المرآة، وبذلك يدرك أن الذي يراه هو نفسه. وذكَّر فضيلته بطرفة، ذكرها أحد العلماء عن فيلسوف أو متصوف إسلامي كان في مرض الموت وحضرته الوفاة فزاره بعض تلاميذه وقال له: من هم أهم الشيوخ الذين أثّروا عليك في حياتك؟ قال: كثير.. لو ذهبت تعدهم ربما في أيام وليالٍ، وأنسى بعضهم، قال: اذكر لنا نخبة من أهمهم. قال: أهمم ثلاثة شيوخ؛ الشيخ الأول: لص، حيث في ليلة كنت قد تأخرت في المجيء إلى بيتي ومفتاحي عند الجار ولم أرد أن أطرق عليه فأزعجه، فوجدت رجلًا يمشي في الشارع قال: ماذا تريد؟ قلت: أريد أن أفتح بيتي، فأخرج مفتاحًا من جيبه وفتح الباب وقال: تفضل. فدعوته إلى منزلي وقلت له: من أنت؟ قال: أنا لص -مهمته أن يفتح الأبواب، ولذلك فهو معه لكل باب مفتاح- قال الرجل: لكني أشفقت عليه بسبب موقفه معي، وجلس عندي شهرًا يأتيني كل ليلة، يذهب أول الليل وعندما يرجع آخر الليل أقول له: هل حصّلت شيئًا؟ قال: لا، ولكن غدًا إن شاء الله، فهو لم يحصّل شيئًا، ومع ذلك لم يتسلل اليأس إلى قلبه، فتعلمت منه الصبر وعدم اليأس، وأخذت هذا الدرس في العلم والعبادة والمعرفة والدعوة، وألا أسمح لليأس أن يسيطر على قلبي! الشيخ الثاني: كان كلبًا –وهذا هو الشاهد- حيث كان هذا الكلب عطشانَ، وجاء بسرعة إلى النهر ليشرب، وكلما اقترب وجد كلبًا آخر في النهر فتراجع، ولكن في النهاية حملته شدة العطش على أن يغامر ويهجم بقوة وتناسى هذا، وبمجرد أن هجم اكتشف بأن هذا الذي رآه في النهر هو صورته وليس كلبًا آخر، وشرب! حيث تلاحظ أن الكلب لا يعي ذاته، فهذا المشهد يؤخذ منه درس في الإقدام، وأن كثيرًا من الناس تحُول الأوهام والمخاوف بينهم وبين ما يريدون أن يصلوا إليه، ولو أنهم أقدموا لحصّلوا الكثير مما يريدون، يقول تعالى: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ )(المائدة: من الآية23). الشيخ الثالث: هو طفل صغير رأيته يمشي ومعه شمعة مضاءة، ولأنني أعيش عقدة من لعب الأطفال بالنهار، سألت هذا الطفل: من الذي أوقد هذه الشمعة؟ فقال: أنا. قلت له: أين كانت هذه النار التي في الشمعة قبل أن توقدها؟ فيقول: نظر إليّ شذرًا وابتسم ثم نفخ الشمعة بفمه فانطفأت وقال لي: ترى أين ذهبت تلك النار؟ فحيرني وأنا الفيلسوف أو الفقيه أو العالم! مما يشير إلى أن شمعة الحكمة في القلب. معانٍ إنسانية وأوضح الدكتور العودة أن الوعي بالذات الإنسانية هو جزء من الهَوية أو الهُوية، ولذلك يجب أن ندرك أن الحديث عن الهوية أول ما يبدأ حديثًا عن الإنسان، فالإنسانية هي رقم واحد في هذه الهوية، كما أنها تمثل المعنى المشترك الذي يجمع الناس كلهم، فالإنسان هو الإنسان، والفطرة واحدة، يقول تعالى، في الحديث القدسي: «وَإِنِّى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ»، ويقول أيضًا في كتابه العزيز: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(الروم: من الآية30)، فهذه الإنسانية التي تجعلنا نشترك في كل الحاجات الإنسانية؛ من المأكل والمشرب والمطعم والمسكن والحب والعلاقات الزوجية وحب التملّك والرغبة في الانتماء والكثير من المعاني، والحاجة إلى الاعتراف بمعنى إنساني، فالإنسان حينما يريد أن يتواصل مع شخص ما لتجارة أو لدعوة أو لزواج أو لعلم يجب أن يدرك أن كل الأشياء التي يحبها هو، يحبها الشخص الآخر، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِى يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ»، بأن تبتسم في وجه الآخر، وأن تناديه باسمه، وأن تنظر إليه بعينيك نظرة الرضا، وأن تثني على إنجازه، وأن تسأله عن تفاصيل حياته، وأن تهنئه بنجاح أو تفوق أو ترقية أو زواج أو مولود، فكل هذه المعاني هي معانٍ إنسانية. وتابع فضيلته أنَّ كوننا بشرًا يجعلنا قادرين على أن ندرك حاجة الآخرين إلى هذه المعاني، فهذا هو الباب أو السبيل أو المعبر للوصول إلى الآخرين، ولذلك قال الله تعالى عن كل نبي أنه (يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)(الفرقان: من الآية7)، فهذا الاعتراف، وهذه الحاجات الإنسانية، والأشواق، والعواطف، والأخلاق، والحب. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ»، هي المداخل التي يمكن أن تصل بها إلى هؤلاء الناس. عقل.. وعلم وذكر الشيخ سلمان أن الانتماء لدين أو لملة أو لمذهب أو لوطن أو لمجموعة، ليس عزلة ولا انفصالًا عن الآخرين، فالإنسان هو إنسان قبل أن يكون أي شيء آخر، وقبل أن يتدين أو يتمذهب أو ينتمي إلى جنس أو عرق أو لون، فهذا الإنسان المكرَّم الذي سماه الله تعالى خليفة، يقول تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة: من الآية30)، وجعل ميزته ليست فقط هي الجسد، وكما يقول الشاعر: يا خادِمَ الجِسم كمْ تسعى بخِدْمَتهِ أتعبت نفسك في ما فيه خُسْرانُ أقبِلْ على النَّفسِ فاستكمِلْ فضائلَها فأنتَ بالروح لا بالجِسمِ إنسانُ ولكن هذا الإنسان ميزته وعظمته في العقل والعلم، يقول تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)(البقرة: من الآية31)، فجعله خليفة لأنه قابل للتعليم، كما أنه عنده قابلية وجاهزية واستعداد لأن يكون عالماً ومتعلمًا، وهذا يؤكد أيضًا على المسؤولية الفردية، فنحن حينما نتحدث عن الهوية لا يجب فقط أن نتحدث عن هوية الأمة أو الوطن أو الجماعة، ولكن لابد أن نتحدث عن الهوية الإنسانية، وكون الإنسان بذاته كائنًا مختارًا معينًا مميزًا كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم:93-95). الدين.. والانتماء العام ولفت الدكتور العودة الانتباه إلى أننا كثيرًا ما تأخذنا الانتسابات الفرعية إلى مذهب أو ملة أو طائفة أو جماعة أو حزب عن الانتماء العام، يقول ربنا -سبحانه وتعالى-: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)(الحج: من الآية78)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)(المؤمنون: من الآية52)، وكما يقول الشاعر: ولست أبغي سوى الإسلام لي وطنًا *** الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلد *** عددت ذاك الحمى من لب أوطاني بِالشامِ أَهلي وَبَغدادُ الهَوى وَأَنا بِالرَقّمَتَينِ وَبِالفُسطاطِ جيراني ولي بطيبة أوطار مجنحة *** تسمو بروحي فوق العالم الفاني وما بريدة مهما لجّ بي دمها *** أدنى إلى القلب من فاس وتطوان دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها *** أعظم بأحمد من هادٍ ومن بان فالدين هو أساس الحضارات التاريخية كلها، فقد تجد كثيرًا من المدن القديمة لا يوجد فيها مدارس أو سجون، لكن لا يمكن أن تجد حضارة ليس فيها معابد، فالدين مرتبط بحاجة الإنسان إلى التدين، ولذلك قال الله -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يـس:61،60)، فلابد للإنسان من عبودية، كما أن بالقلب فقرًا وشتاتًا وشعثًا لا يلمّه إلا الإقبال على الله -عز وجل- ؛ فالإيمان بالله وتقديسه -عز وجل- وذكره وتسبيحه وطاعته يجعل للحياة معنى عظيمًا، ولم أر أكثر بؤسًا وشقاوة من إنسان يواجه هذه الحياة وصعوباتها ومتاعبها وآلامها ومخاطرها وأمراضها دون أن يأوي إلى ركن شديد، وكما يقول الشاعر: فاشدُدْ يَدْيكَ بحَبلِ الله مُعتَصِمًا فإنَّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أركانُ فهناك شيوعيون إذا ضاقت عليهم السبل أو حانت ساعة الصفر أو ألمت بهم مصيبة أو نازلة فزعوا إلى الله -عز وجل-، وهتفوا باسمه العظيم، وحمدوه، وشكروه، وانطرحوا ببابه، وقد قال قائلهم وهو السياب، وكان شيوعيًا ثم قاده المرض إلى الله: منطرحًا أمام بابك الكبير.. أصرخ في الظلام أستجير! يا راعي النمال في الرمال.. وسامع الحصاة في قرارة الغدير فالإيمان بالله معنى ذاتي وعظيم، فهو ليس رياءً ولا تفاخرًا وادِّعاءً، ولكنه معنى يربط العبد بربه -عز وجل- فإذا أُعطي شكر لأنه يعلم واهب النعم، وإذا ابتُلي صبر لأنه يعلم أن البلاء من الله -عز وجل- والعافية عنده، وإذا أذنب استغفر لأنه يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا الله، فالإيمان بالله -عز وجل- في المقام الأول هو حاجة فردية ثم حاجة اجتماعية وإنسانية، مشيرًا إلى أننا في أحيان كثيرة، خاصة في المجتمعات المتشبعة بالدين والعلم، ننشغل بالدين عن التدين، أي ننشغل بالحديث عن الدين أو ننشغل -أحيانًا- بالادعاء أو المظاهر عن الحقيقة، فالإيمان في القلب والإسلام هو الظاهر، وكما يقول الشاعر: إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمن لم يحيِ دينا ومن رضي الحياة بغير دين *** فقد جعل الفناء لها قرينا الهوية.. والتعدد وذكر الشيخ سلمان أن الهوية تحتمل التعدد، حيث لابد في الهوية من التعدد، فهناك الهوية الإنسانية، والهوية الإسلامية، والهوية الثقافية التي تعني اللغة والعروبة، مشيرًا إلى أن العروبة ليست لغة فحسب، ولكن العروبة جنس، فالعرب جنس، كما أن تاريخ وحضارة ومجد العرب يدل على أن العرب جنس، ولكن هذا الجنس واسع، وليس مثل اليهود الذين جعلوا هناك خصوصية بحيث لا يدخل فيهم من ليس من ذريتهم، ولكنْ هناك مداخل كثيرة جدًا وشعوب دخلت في العروبة والإسلام واللغة، وامتزجت بالعرب وأصبحت منهم، وهذا يجعل هناك امتدادًا واتساعًا للعروبة. واستطرد فضيلته: كما أن هناك الهوية القانونية، والتي نعني بها الوطن، فالأوطان الموجودة اليوم والدول القطرية التي ينتمي إليها الناس هي عبارة عن انتماء قانوني زيادة على العاطفة الوطنية الموجودة، وربط حب الإنسان بالوطن والتراب والأرض، فضلًا عن أن هناك الانتماء لهذه الدولة التي يلتزم الإنسان بأعرافها ونُظمها وقوانينها، وينتمي إليها ويعمل ضمن إطارها. الثابت.. والمتغير وفيما يتعلق بالثابت والمتغير في الهوية، قال الشيخ سلمان: هناك الجوهر الثابت للإنسان وللإيمان، وهناك ثوابت الدين والأخلاق، حيث نجد في القرآن الكريم تعبير الثوابت، يقول تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم:24)، فالأصل لا يتغير، أما الفرع فيتغير ويذهب ذات اليمين وذات الشمال، مما يشير إلى أن هناك ثوابت الدين وأركانه وأصوله ومعاقده ومواضع الإجماع عليه، فهناك ثوابت العقيدة والأعمال والعبادات، وثوابت الأخلاق، كما أن هناك المتغير، وهو أيضًا واسع وكبير وفيه اختلاف ضخم، لافتًا إلى أن رفض الخطأ عند الناس شيء ورفض الجديد شيء آخر، ولذلك ينبغي أن يكون حديثنا عن الثابت والمتغير، أي: قبول الجديد المفيد، وأن هناك دائرة واسعة للمتغيرات، فنحن نجد أن هناك حالة من التخلف والجمود والتخندق على موروثات ما أنزل الله بها من سلطان في عالمنا الإسلامي، ليس الآن ولكن منذ قرون. وأضاف فضيلته: لقد رفض الكثير من المسلمين المطبعة حينما ظهرت في البداية، بل إنها لاقت رفضًا حتى من العلماء وطلبة العلم، وخافوا أن يكون لها أثر في نشر الفساد والانحلال، ثم رفضوا طباعة المصحف ورأوْا أن طباعة التوراة والإنجيل وغيرها لا يتناسب معها طباعة المصحف، ورفضوا ترجمة المصحف أو ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى، وفرضوا على من يريد أن يعرف الإسلام أن يتعلم اللغة العربية. أمور طارئة وضرب الدكتور العودة، مثالًا لذلك، قائلًا: لقد زرت يومًا من الأيام رجلًا في بريطانيا وحدثني يقول: لقد كان عندي مشكلة مع والدتي فشعرت بأنني أخطأت في حقها وأردت أن أذهب إلى البيت الحرام لأُكفّر عن خطأي في حق أمي، فطفت بالبيت وأنا ليس لي حديث إلا البكاء والدموع والخشوع والخضوع والتضرع إلى الله -سبحانه وتعالى-، وأقول: يا رب سامحني، وفي آخر الطواف قلت له -عز وجل-: يا ربي إذا كنت قد سامحتني فأرجو أن ترسل أو تبعث لي آية أو علامة، يقول: وعندما رجعت إلى لندن -وهو شخص عادي جدًا- ذهبت إلى مسجد الجمعة مبكرًا فوجدت رجلًا بريطانيًّا من أصل إفريقي في الشارع وسلم عليّ، وقال لي: أريدك أن تعلمني الإسلام. أنت مسلم وأريد أن تعلمني الإسلام. يقول، فقلت له: اذهب للإمام واسأله، وتركته، وعندما جلست في المسجد خطر في بالي خاطر، قلت: لعل هذا علامة، أرسله الله إليّ علامة على قبول استغفاري وتوبتي إليه سبحانه، فيقول: تمنيت أن أراه الجمعة الثانية. أتيت وأنا أبحث عنه فوجدته في ناصية الشارع، أتيته وصافحته وقلت له: ماذا قال لك الإمام؟ قال: إن الإمام قال لي: لابد أن تتعلم اللغة الأردية حتى نقدّم لك ترجمة القرآن باللغة الأردية، وهذا أمر بالنسبة لي ليس ممكنًا ولا مقبولًا ولا معقولًا! فيقول: أخذته وأتيت به إلى هذا المجلس الذي تجلس أنت فيه الآن وأصبحت أتعلم أنا وإياه سورة الفاتحة وقصار السور، وما هي إلا أيام حتى أسلم، كما أن هذا المجلس شهد أيضًا إسلام أكثر من خمسة أو ستة من الشخصيات المهمة والمؤثرة في المجتمع البريطاني، وتشهّدت شهادة الحق، وأنا أعتبر هذه نعمة كبيرة من الله -عز وجل- وأرجو أن تكون علامة على قبول توبتي واستغفاري. وأردف فضيلته: كذلك فيما يتعلق بالتطعيم، فقد رفضت مجتمعات إسلامية في باكستان ونيجيريا التطعيم بظنّ أن هذا التطعيم هو خدعة أوربية كافرة من أجل تعقيم المسلمين والمسلمات لئلا ينجبوا، ومات بسبب هذه الفتوى الجائرة مئات الآلاف من الناس، مشيرًا إلى أن الأمر كذلك فيما يتعلق بالتعليم، فقد رفض في الكثير من المجتمعات الإسلامية أول الأمر تعليم المرأة في أكثر من بلد إسلامي، من العراق إلى مصر إلى السعودية وسوريا إلى غيرها، حيث كان يُعتبر تعليم المرأة خطًّا أحمر، ولم يلق ترحيبًا أول الأمر من المجتمعات الإسلامية، لافتًا إلى أننا حينما نتحدث عن الثابت والمتغير، فإننا علينا أن نفرق بين الأصول والقيم والمبادئ الأساسية الجوهرية وبين الأشياء التي ربما طرأت على الناس وهي بحاجة إلى تصحيح أو تبديل أو تعديل. الهوية.. والتحديث ثم انتقل الشيخ سلمان إلى الحديث عن الهوية والتحديث، قائلًا: إننا حينما نتحدث عن الهوية يبدو في كثير من الأحيان وكأننا نواجه بها المتغيرات أو المستجدات، مشيرًا إلى أن الهوية أصبحت في بعض أحاديثنا وكأنها سجن نسجن به أنفسنا، وذلك بدلًا من أن تكون حافزًا ودافعًا لنا لأن نتقدم وأن نكون قدوة وأن نقتبس العلم والمعرفة والحكمة من أين وجدناها وفي أي شعب أخذناها، ولأن ننافس في ميادين الحضارة والتقدم والرقي، حيث أصبحت الهوية شعارًا نحاول أن نضرب به سورًا وحصارًا بيننا وبين كل ألوان الإنجاز والتفوق البشري، لافتًا إلى أنه من الخطأ أن ننسب الهوية إلى الضد، وذلك بأن نُعرّف أنفسنا أو هويتنا من خلال نقد الآخرين، أيًا كان هؤلاء الآخرون، موضحًا أن الهوية هي قيم ذاتيه يعقبها التعرف إلى الآخرين، في حين أن القطيعة ليست هوية، حتى لو كانت هذه القطيعة مع التاريخ، لأن تاريخنا جزء منا، فتاريخنا ليس مجمعًا للفضائل ولا للكمالات، ولكنه فيه ألوان من الخير والإنجاز والإبداع والفتوح، وإلى جوار ذلك أخطاء ومظالم، وكان بعض السلف يقول: "لو جاءت لنا الأمم بظالميها وطغاتها وأتيناهم بأبي عبد الله لغلبناهم"، يقصد: الحجاج بن يوسف الذي اشتهر عنه سفك الدماء والقتل والتنكيل وحتى خطبه أصبحت مثارًا للرعب والفزع وكان الناس يخافون منه ويهربون حتى قال قائلهم: وددت مخافة الحجاج أني *** بكابل ضمن شيطان رجيم مقيمًا في مغابنه أغني *** ألا حي المنازل بالشميم ! فكان الحجاج مصدر رعب، بل إن النساء كانت إذا أرادت أن تسكت ولدها ربما خوّفته بالبطال أو الحجاج! وأضاف فضيلته أن تاريخنا ليس مجمعًا للكمالات، ولكن فيه الخير الكثير الطيب المبارك من الإنجاز والفضل والوحدة والمجد والأخلاق والإنسانية، مشيرًا إلى أن أولئك الذين يريدون أن يختصروا تاريخنا في جزئية أو خطأ أو شخص هم منسلخون من ضمير هذه الأمة، بل ومنسلخون من حقيقتها، متسائلًا: إذا كان هناك من يقول إن الأولين والسابقين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يستطيعوا أن يقيموا دولة العدل والإيمان، ففي أي عصر وأي مصر سوف تقوم دولة العدل والإيمان إذًا؟! موضحًا أن القطيعة ليست من الهوية أيضًا، سواء أكانت هذه القطيعة مع الواقع أو العالم أو الحضارات الإنسانية أو النماذج البشرية الموجودة والقائمة، حيث يجب أن ندرك أن التحديث هو جزء من الهوية. الاعتدال مطلوب وأردف الدكتور العودة أن الهوية لها أكثر من مهمة، في مقدمتها أنها تعرفنا بذواتنا، وتساعدنا في الحفاظ على أشخاصنا وقيمنا وأخلاقنا وعقيدتنا وديننا، وتدفعنا للإنجاز والعمل، كما أنها تحفزنا إلى أن نبادر ونشارك ونقتبس ونستفيد من الآخرين، وكما يقول الشاعر: لَسنا وَإِن أَحسابُنا كَرُمَت *** يومًا عَلى الأَحسابِ نَتَّكِلُ نَبني كَما كانَت أَوائِلُنا *** تَبني وَنَفعَلُ مِثلَما فَعَلوا فالمبالغة في تمجيد الذات أو الماضي وطول العيش في التاريخ والاستغناء عن الآخرين والحذر المفرط من كل ما ليس بعربي أو إسلامي ربما يحتاج إلى تعديل، مشيرًا إلى أننا في ثقافتنا وأشعارنا وقصائدنا نتحدث عن الماضي، والأمجاد، والتاريخ، حتى الشعراء النبلاء من أمثال محمد إقبال، حيث نجده يقول: أوحى الإسلام لنا دينا *** وجميع الكون لنا وطنا أو قصيدته الأخرى: أمة الصحراء يا شعب الخلود... من سواكم حلّ أغلال الورى أيّ داعٍ قبلكم في ذا الوجود... صاح لا كسرى هنا لا قيصرا؟ من سواكم في حديث أو قديم... أطلع القرآن صبحًا للرشاد؟ هاتفًا في مسمع الكون العظيم... ليس غير الله ربًا للعباد ! إلى آخر القصائد والأشعار: إني تذكرت والذكرى مؤرقة *** مجدًا تليدًا بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد*** تجده كالطير مقصوصًا جناحاه كم صرّفتنا يد كنا نصرفها *** وبات يملكنا شعب ملكناه بالله سل خلف بحر الروم عن عرب *** بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وإن تراءت لك الحمراء عن كثب *** فسائل الصرح أين العز والجاه؟ وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها *** عمن بناه لعل الصخر ينعاه هذي معالم خرس كل واحدة *** منهن قامت خطيبًا فاغرًا فاه والله يعلم ما قلّبت سيرتهم ***يومًا وأخطأ دمع العين مجراه ! وتابع فضيلته أن هذه جميعها أبيات جميلة ومعانٍ رائعة وعواطف جمة، ولكن ينبغي أن ندرك أن تحديات الحاضر لا يمكن أبدًا أن تزول بمجرد معانٍ عاطفية وألفاظ جميلة نحاول أن نستعيد بها الماضي، وحتى إذا ألمت بنا ملمة أو نزلت بنا نازلة تجد أننا نصرخ وننادي صلاح الدين أو خالد بن الوليد أو غيره، ولذلك قال قائلنا: وقبر خالد في حمص تلامسه *** فيرجف القبر من زواره غضبا يا رُبّ حيٍّ رخام القبر مسكنه *** ورُبّ ميت على أقدامه انتصبا! مؤكدًا على ضرورة أن نعتدل في تمجيد الذات، لافتًا إلى أن الأمر كذلك فيما يتعلق بالنسبة للشعر الشعبي، فنحن كثيرًا ما نتحدث عن أمجاد لقبائلنا وأسرنا، والغريب أن هذه الأمجاد ليست في مواجهة الكيان الصهيوني أو العدو الغاشم ولا في طرد المحتل، وإنما في الغالب هذه الأمجاد التي ندّعيها هي حروب أهلية كانت القبائل تغير بعضها على بعض ويقاتل ويقتل بعضها بعضًا. الهوية.. والعولمة وفيما يتعلق بالهوية والعولمة، قال الشيخ سلمان: إن العولمة بمفهومها الشامل هي التواصل الكوني والمعلوماتية وثورة المعرفة والاتصال، والهيمنة السياسية والاقتصادية، كما أن العولمة الثقافية هي اختبار اليوم لعاداتنا القوية أو الهشة، متسائلًا: هل لدينا القدرة على أن نحافظ على عاداتنا في مواجهة عادات الآخرين؟ مشيرًا إلى أن العالم اليوم يعيش حالة من الاختلاط، ليس نحن فقط، ولكن الفرنسيون يعانون مشكلة صعبة جدًا من العولمة، وكذلك الصينيون واليابانيون، بل حتى الأمريكان، وعلى سبيل المثال، فإن الرئيس الأمريكي باراك أوباما لا يخلو من دم إسلامي بالنظر إلى أهله وأجداده، وهذا الأمر مؤثر جدًا، أدركنا أو لم ندرك، والآخرون الذين يقفون في المعسكر الآخر دائمًا ما ينبذونه بهذا، حتى أشاعوا عنه يومًا من الأيام أنه مسلم يُخفي إسلامه، لافتًا إلى أن هذا ليس له تأثير في السياسة الأمريكية، والتي هي ليست سياسة أفراد، وكما يقول الشاعر: رَأيُ الجَماعَةِ لا تَشقى البِلادُ بِهِ *** رَغمَ الخِلافِ وَرَأيُ الفَردِ يُشقيها زَمانُ الفَردِ يا فِرعَونُ وَلّى *** وَزالَت دَولَةُ المُستكبرينا وَأَصبَحَتِ الرُعاةُ بِكُلِّ أَرضٍ *** عَلى حُكمِ الرَعِيَّةِ نازِلينا ولكن أمريكا من الدول التي تقوم على المؤسسات وسياسات مدروسة، ولكن يظل هذا التأثير للعولمة موجودًا وقائمًا. وأضاف فضيلته أن التقنية اليوم لها دور كبير، فليس سرًّا أن نقول أن التقنية لها أعظم الأثر فيما جرى في تونس أو ما يجري في مصر، حيث كانت البداية من قبل شباب تعارفوا وتواعدوا من خلال الفيس بوك وتويتر واليوتيوب من خلال التفاعل والتواصل أولًا بأول، حيث سماها بعضهم بـ"ثورة الإنترنت"، أو "ثورة الويكلكس" بالنظر إلى التسريبات العالمية المشهورة الآن، كما أن أقل ما تقدمه القنوات الفضائية أنها تغطي الأخبار، وكذلك ثقافة الصورة التي تجعل الناس يشاهدون بعيونهم ويتأثرون أكثر مما يتأثرون بمجرد الكلام، مما يؤكد أن الثورة التقنية ليست شرًا محضًا، كما أن أولئك الذين ابتكروا هذه الثورة وصنعوها وأنتجوها ليسوا مسيطرين عليها من كل وجه، فهي ربما خرجت على الأقل في بعض تجلياتها عن سيطرتهم وهيمنتهم. التنميط مرفوض وذكر الدكتور العودة أن الانترنت والفضائيات وغيرها أصبحت في بعض نماذجها وأنماطها وسيلة إلى الدعوة إلى الله -عز وجل-، وذلك على الرغم من أن ثقافة الغالب مسيطرة، كما يذكر ابن خلدون، فالمسيطر على الإعلام هو الثقافة والصورة الغربية، فالدراما التي يتابعها الناس في الغالب تحمل مضامين غربية، من ثقافة الاستهلاك المؤثرة على شبابنا وبناتنا، بحيث أنك تجد كل يوم تغييرًا للجوال ولجهاز البلاك بيري وأحدث الأشياء والسيارات واللابتوب وسواها من سيطرة ثقافة الاستهلاك والجديد والاستعمال، دون أن نكلف أنفسنا محاولة الإبداع والتجديد، وأصبح المأكول والمشروب رمزًا، وعلى سبيل المثال، فإنه بعدما سقطت الشيوعية كان أبرز ما يمكن أن يُقدّم في روسيا كعلامة على الانفتاح تجاه أمريكا هي مطاعم الوجبات السريعة أو المشروبات الغازية التي تُصنّع هناك، وكذلك الأمر بالنسبة للغة، حيث تسربت الكثير من الكلمات التركية إلى العالم العربي، وذلك حينما كان الأتراك يحكمون العالم الإسلامي. وضرب فضيلته مثالًا لذلك، قائلًا: إننا كثيرًا ما نسمع هذه الأيام في مصر كلمة "بلطجية"، وهي كلمة في أصلها تركية، وكل كلمة مختومة بـ "جي" فهي تعبير عن مهنة أو حرفة ربما تنسب إلى بعض الناس، مما يشير إلى أن اللغة العربية دخلها الكثير من المواد الأجنبية، لافتًا إلى أننا نلاحظ في هذا العصر ما يمكن أن نسميه بـ"تنميط الإنسان"، أي: محاولة تحويل الناس كلهم إلى نمط واحد في اللباس والشكل والصورة والثقافة، وهذا نوع من الهوية المعولمة وقسر أو استبداد يلغي خصوصيات الشعوب، كما يقضي على التعددية، ولذلك فهو مرفوض. الهوية.. والاندماج وفي ثنايا حديثه تطرق الشيخ سلمان إلى الحديث عن الهوية والاندماج، مشيرًا إلى أن مسخ الكل في واحد أو في صورة واحدة هو عدوان على التعدد الإنساني، مؤكدًا أن الاندماج بالنسبة للمجموعات الإسلامية الموجودة في أوروبا أو غيرها يجب ألا يكون قطعًا للصلة مع الجذور، سواء كانت جذورًا عروبية أو إسلامية، فالمسلمون في أوروبا يعانون ما يعانون، وعلى سبيل المثال، فإن فرنسا العلمانية تتشدد بمواقف تعكس عداءها للإسلام، ليس فيما يتعلق بالحجاب فقط، ولكنها تمنع المجاهرة بالهوية الدينية، ومما تتعرض له العديد من البنات من أصول مغاربية أو جزائرية من مشكلات في المدارس أو في حصة السباحة أو في لبس الحجاب أو في غيرها، فضلًا عما يقع في الشارع أو السوق من بعض المتطرفين واليمينيين، وكذلك الأمر في ألمانيا، فعلى الرغم من أن الرئيس الألماني قال: إن المسيحية واليهودية والإسلام جزء من ألمانيا، والناس كلهم وقفوا في حيرة أمام هذا التصريح الذي يقترب أن يكون اعترافًا بالإسلام، وقد عُقد مؤتمر للمسلمين في ألمانيا، بل أُعدّ قانون جديد للهجرة، حيث أتاح للكثير من المهاجرين وخاصةً من الأتراك بأن يحصلوا على الجنسية الألمانية، بل ظهر الجيل الثاني والثالث وربما الرابع من هؤلاء الناس الذين لهم تأثير وحضور اقتصادي، وأصبح الكثير منهم مفكرين ومثقفين وعلماء وفلاسفة ورجال أعمال وتجارًا، حيث يزيد تعداد المسلمين في أوروبا على خمس وسبعين مليونًا، وهذه ليست إحصائية رسمية، حيث هناك تحفظ على أعداد المسلمين. وأوضح فضيلته أن قدرة المسلمين على الاندماج في تلك المجتمعات، والتعاطي معها والانفتاح الرشيد الواعي، هو جزء من الثقة بالنفس، والوعي بالدين، مشيرًا إلى أن الانعزال والتقوقع يعكس حالة من الضعف والعجز والجبن وضعف الثقة بالمحتوى الثقافي الذي يحمله هذا الإنسان، كما أن تعسّف العديد من الدول كما رأيناه في فرنسا وفي عدد من الدول في دمج المسلمين بالقوة والقسر والإكراه هو دائمًا ما يعطي نتيجة عكسية ويحمل الكثير من المسلمين على أن يعودوا إلى جذورهم ويبحثوا عن هويتهم الأصيلة. الهوية.. والوطنية ثم انتقل الدكتور العودة إلى الحديث عن الهوية الوطنية، قائلًا: إن الوطن هو وعاء يستوعب جميع المكونات، فالانتماء للوطن ينبني على علاقة فطرية، كما يقول الشاعر: وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرتهمُ عُهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا فالانتماء إلى الوطن هو علاقة مكتسبة، فالإنسان يجد في الوطن ذاته ومصالحه وعمله والوظيفة والمال والحاجات والقيمة، مشيرًا إلى أن حاجة الإنسان إلى الاعتراف والتقدير لا تقل عن حاجته إلى المال، لافتًا إلى أننا لو بحثنا في عالمنا العربي لوجدنا أن النزعة القبلية قد ظهرت وأطلت حديثًا، حيث عدنا كما كنا عربًا نتقاتل على القبائل ونعتصم وننتخي بها وندعو إليها ونهتم بها ونتنادى لأبناء القبيلة وأبناء العمومة، موضحًا أننا نجد هذا في السعودية والكويت والعراق، بل نجده أيضًا في باكستان وأفغانستان وفي كل مكان!، متسائلًا: لماذا رجع الناس من جديد يستعصمون بالقبيلة ويتنادون بها ويحيونها في وقت ربما نحن أحوج ما نكون فيه إلى تجاوز ذلك؟ وأضاف فضيلته أن عودة النزعة القبلية ترجع إلى أن الانتماء الجديد الذين كان يجب أن يكون إلى الوطن ـ بحيث يستوعب الناس ويؤويهم ويحقق متطلباتهم وحاجاتهم ويحقق لهم العدالة والحرية والمساواة والاعتراف والمال ـ لم يعد كذلك، فبدأ الناس بالرجوع إلى المكونات الأولى، وعلى سبيل المثال، فماذا يفعل الناس في العراق إذا كانوا لا يشعرون بأن الأوضاع القائمة تمثلهم، ولا يريدون أن يواجهوا هذه الأوضاع فرادى، حيث لا توجد تشكيلات حزبية حقيقية وشفافة، حيث يكون الحل التلقائي والقريب خاصةً لدى العربي هو عودة الانتماء إلى القبيلة، والذي يؤثر بدوره على حقيقة الانتباه للإسلام، وسوف يكون معوقًا أمام النهوض والحضارة، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حذّر من هذا حينما قال: «أَرْبَعٌ فِى أُمَّتِى مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ الْفَخْرُ فِى الأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِى الأَنْسَابِ وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ»، فالانتماء للقبيلة ليس مجرد انتماء عفوي طبيعي مثلما كان الأمر في الصدر الأول، ولكن هو انتماء يترتب عليه عنصرية وعصبية وتناصر وازدراء للآخرين أحيانًا. فجوة ضخمة واختتم الشيخ سلمان محاضرته بالتحذير من أن التفاوت بين الأجيال القديمة والجديدة أمر في غاية الخطورة، ويلاحظ هذا في الأسرة؛ حيث نجد أن الأب يتكلم بلغة الابن أو البنت تتكلم بلغة أخرى مختلفة، كما هو ملاحظ في الساسة والشباب الجديد المتطلع في خليجنا وفي عالمنا العربي، حيث يتحدث بلغة واعية وحديثة وعصرية تتمثل في لغة الحقوق والعدالة والحرية والشراكة، بينما الكبار من الساسة يتحدثون بلغة تنتمي إلى جيل سابق، وعلى سبيل المثال، فإنني كنت أشاهد التليفزيون المصري أمس واليوم فوجدت أن الأحداث التي تقع ليس لها وجود يذكر في هذه الشاشة، وكأنه يتجاهل أو يتناسى أن هناك صراعًا ضخمًا في الفضاء، وحينما تنتقل إلى قنوات عربية أو قنوات غربية مثل bbc أو Cnn أو غيرها تجد تغطية الحدث أولًا بأول، مما يؤكد أننا أمام مشكلة عويصة، خلاصتها أن ثمة فجوة ضخمة بين الجيل القديم والجيل الجديد، فالكبار تقليديون يكرهون التغيير، كما أنهم بطبيعتهم يتسمون بالبطء وعدم الاستعجال في القرار، وحتى حينما يتخذ القرار يقلبه على وجهه، وكما يقول المثل الشعبي: "افتكت الهوشة وبشر يتحزّم!"، أي: يريد أن يستعد لها وهي انتهت وذهب كلٌ إلى حال سبيله. وأضاف فضيلته: أما الشباب فهو إلى جوار كونه متطلعًا أو طموحًا، فإننا لا يمكن أن ننسى أن كثيرًا من الشباب قد يكونون متفلتين وليس عندهم الانضباط، وآخرون ربما يكونون متشددين وعندهم مشكلات كبيرة في التعاطي مع المستجدات، ولذلك من أجل حل هذه المشكلة عند الصغار والكبار، فإنني أنادي بأهمية التواصل بين الأجيال، سواء كانت أجيال المعلمين أو الدعاة أو الساسة أو الآباء أو الأمهات، حيث يجب أن نفهم الآخرين، فمجرد استخدام أسلوب: افعلوا أو لا تفعلوا، ليس حلًا، ولكن علينا أن نقترب منهم، وأن نتعامل معهم بحنان وبحميمية وبعطف وبلطف، كما يجب علينا أن نفهم لغتهم ونتحسس مشاعرهم وندرك ما هي الأشياء التي تدور في خواطرهم ونتحمّل أيضًا ما قد يصدر منهم، فقد كنت أقرأ في مقرر الأناشيد في طفولتي أبياتًا أجدها مناسبةً لهذا الحديث: لي جَدَّةٌ تَرأَفُ بي أَحنى عَلَيَّ مِن أَبي مَشى أَبي يَومًا إِلَيْ يَ مِشيَةَ المُؤَدِّبِ فَجَعَلتني خَلفَها أَنجو بِها وَأَختَبي وَهيَ تَقولُ لِأَبي بِلَهجَةِ المُؤَنِّبِ أَلَم تَكُن تَصنَعُ ما يَصنَعُ إِذا أَنتَ صَبي؟! ويقول تعالى: (كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)(النساء: من الآية94). حيث علينا أن نتصاغر -إن صح التعبير- أو نتصابى لأولادنا وبناتنا وأجيالنا الجديدة حتى نفهمهم ونكون قادرين على مساعدتهم، وأخيرًا أقول للشباب: يا شباب العالم المحمدي *** ينقص الكون شباب مهتدي فأروه دينكم كي يقتدي *** دين عقل وضمير ويد يا شباب العزمات الملهمة علموا الكون التقى والمكرمة علموا الكون الهدى والمرحمة عرفوا الكون النفوس المسلمة شعر.. وإشادة وكان الشيخ سلمان في بداية المحاضرة قد أنشد، قائلًا: أهدي التحايا لمن هم منتهى سفري *** وهم فؤادي وهم سمعي وهم بصري كويت إنَّ حبال الله تجمعنا *** فهل يفرقنا خيط من البشر أحبكم بجلال الله أجمعكم *** هذا شعاري وذا شعري وذا قدري قلب يحن إليكم كلما نبضت *** ذرّاته فهواكم متعة العمر عهد على الحب والإيمان نحفظه *** نرجو به ما أتى في سالف الخبر لكم دعائي وتحناني وتذكرتي *** تجنكم في دروب الخير والفِكَر كما أشاد الدكتور العودة بالكويت وأهلها، قائلًا: إنني أشكر هذا البلد، كما أشكر شعبه وحكومته وشبابه على حيويتهم وانفتاحهم وأدائهم وعطائهم الذي هو جزء من شكر نعمة الله -عز وجل، لافتًا الانتباه إلى أن فضيلته شارك قبل ثلاثة أسابيع في ملتقًى للعلاقات العربية التركية، والذي أقيم في الكويت تحت رعاية مجموعة من نبلاء الشباب في هذا البلد الطيب الكريم المضياف. |
إندونيسيا جميلة، يشتاق إليها من قد وطئت قدماه أرضها،على وعي وبصيرة، وشرب ماءها، وأكل ثمارها، وزرع خيرا في جنباتها، إنها بقعة من بقاع العالم من صنعة خالقها - جل وعلا - يعيش فيها سكانها الرحماء، إنها جنة لا بد من الاعتناء بهاورعايتها؛ لتظل خضراء تفوح روائح زهورها، وتغرد طيورها مع نسيمها العليل وسمائها الصافية وأمطارها الغزيرة، وترنو بشوق إلى حاضرها المشرق.
السبت، 12 فبراير 2011
د.سلمان العودة: الدول الإسلامية تحاول أن تتنسم عبير الحرية والمجد
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق