الجيران
- وكالات:تسابقت دور النشر في السنوات الأخيرة على إصدار عشرات المعاجم في
مختلف الميادين من أحاديّة إلى ثنائيّة إلى ثلاثية اللغة، ولم يصمد منها
إلاّ النذر اليسير. وفي الآونة الأخيرة صدر قاموس «المجاني عربي- فرنسي»
عن دار «المجاني» في بيروت. بعدما أصدرت دار «العلم للملايين» العام 1983
«معجم عبد النور عربي- فرنسي» الذي أحدث ضجة في الأوساط الأدبية والجامعية
حينها، انتظر المثقفون وأساتذة الترجمة حوالى 20 عامًا لتصدر «مكتبة
لبنان» معجم «المرجع» الذي وضعه أستاذ الترجمة المشهور جوزيف نعوم حجّار.
وفي أثناء ذلك شهدت أسواق المعاجم عناوين كثيرة في هذا الحقل، لكن أيًّا
منها لم يثبت بين أيدي المعلمين والطلاب لركاكة محتوياتها وبُعدها عن أصول
العمل المعجمي وغزارة الأخطاء التي وقعت فيها. حثّت هذه الندرة من
المعاجم القيّمة بعض الناشرين الكبار إلى خوض المعركة التي طالما جالوا
وصالوا في ساحاتها، فأوكلوا إلى مؤلفين عدة وضع معاجم ثنائية اللغة تتناول
الكلمات بمفهومها المعاصر، إضافةً إلى ما تعنيه في الأصل. وأقدمت
«دار المجاني» من بين هؤلاء الناشرين فأوكلت إلى فريق من اللغويين
المتخصصين تأليف معجم بعنوان «المجاني قاموس عربي- فرنسي»، وكلّفت اللغويّ
العريق سليم نايف نكد بمراجعته وتصحيحه. ولما كان الأستاذ نكد مرجعًا
قيمًا في أمور اللغة، فقد حاورناه للتعرّف إلى مهنة العمل المعجمي، وإلى
الجديد الذي أضيف على هذا القاموس عمّا سبقه من المعاجم: ما هي برأيك مهمّة العمل المعجمي؟ للعمل
المعجميّ، أصلاً، مهمّتان أساسيتان: الأولى حفظ أكبر عدد ممكن من مفردات
اللّغة وتعابيرها، وضبط معانيها- بقطع النظر عن مدى تداولها في التواصل
الشفهيّ، واستخدامها في التعبير الكتابيّ- وذلك حرصًا عليها من الضياع
وحفاظًا على سلامة نظامها الصوتيّ والصرفيّ من التحريف والتصحيف؛ والثانية
مهمّة وظيفيّة تعليميّة تقوم على مرافقة حركة اللّغة في تطوّرها وما يطرأ
عليها من تبدلات في أوجه استعمالاتها وتراكيبها واستغلال ما تنطوي عليه من
طاقات إبداعيّة وفقًا لحاجات التواصل ومتطلبات التعبير عن مكنونات الفكر
والوجدان. كيف تولى المعجميون هذه المهمة؟ تولاّها المعجميّون
الأسلاف على مرّ العصور بشموليّة ودقّة ومنهجيّة تُثير الإعجاب وتشهد لهم
بالتفوّق، حتى إن بعض العلماء المستشرقين يعتقد أن العرب كانوا سبّاقين في
هذا المجال، وأن المعجميّة إبداع عربيّ خالص. ولكن هذه المرحلة طالتْ
وغلبَ عليها النقل والتقليد. ماذا عن المهمة الإضافية للمعاجم الثنائية اللغة؟ في
العصر الحديث، نتيجة الاحتكاك والتمازج بين شعوب مختلفة اللّغات
والثقافات، كان على المعجم أن يضطلع بمهمّة إضافيَّة فيكون وسيلة فاعلة
لتسهيل التواصل والتفاعل بين هذه الشعوب ولغاتها وثقافتها، فوُضعتِ
المعاجم الثنائيّة اللّغة. ولتأمين التواصل بين شعبَين مختلفَي
اللّغة، نهض المعجميّون المعاصرون منذ مطلع عصر النهضة إلى وضع هذه
المعاجم استجابةًَ لمتطلبات الحياة العصرية. إنها حركة التاريخ التي لا
تعرف التوقف، واللّغة، كمؤسسة اجتماعية، هي في صميم هذه الحركة، شديدة
التأثر بها والتأثير فيها؛ وعلى المعجميّ الذي يرصدها ويسجّل ما يطرأ
عليها من تطورات، ألاّ يَدعَ الهوّة تتّسع بين اللّغة في خضمّ الحياة،
واللّغة في متون المعاجم. ما هي زوّادة المعجميّ الذي يعمل على لغتين؟ لا
بُدّ للمعجميّ، كي ينهض بهذه المهامّ، أن ينصرف إليها مزوّدًا بالخبرة
اللغوية الكافية، وأكاد أقول أن ينقطع إليها خلال حياة كاملة أو مرحلة
طويلة من الحياة بثقافة واسعة، متنوعة، وحسّ لغويّ، مرهف؛ إضافة إلى أنّ
عملاً من هذا النوع لا بدّ من أن يكون نتاجًا جَماعيًّا، تراكمًا لمحاولات
وخبرات يضيفها اللاحق على نتاج السابق مع ما يرصده بحسّه الذاتيّ من دبيب
هذه الحركة. فالمعاجم سلسلة متواصلة الحلقات يتمايز بعضُها عن بعض بمدى
الشمول ودرجة الدقّة في التحديد والتعريف وإيجاد المقابل الأجنبيّ، وسعة
الاطلاع على المولَّد والمستحدث في تعريب المصطلحات، والقدرة على الإسهام
في الاقتراح والاختيار. ما هي الميزات التي أضفتموها على هذا المعجم؟ نعتبر عملنا هذا حلقةً في السلسلة، ونعترف بفضل سابقينا واستفادتنا من تجاربهم، أمّا أهمّ مميّزاته فنلخصها بما يلي: -1
إنّه معجم عصريّ بالمعنى الدقيق للمعاصرة. فهو يعكس روح العصر الذي وُضع
فيه واهتمامات أبنائه، معلّمين وطلاّبًا وباحثين ومترجمين… في حرص دائم
على تلبية حاجاتهم للتعبير في اللّغة الفرنسيّة عمّا يجول في خاطرهم أو
يطالعهم في محيطهم، وهو ينقل صورة صادقةً عن واقع اللّغة في هذه المرحلة،
إذ يسجّل حركتها التطوريّة التي تتجلّى في إهمال مفردات أسقطها الاستعمال،
وفي إدخال مفردات ومصطلحات استُحدثَتْ للتعبير عن مفاهيم جديدة، إلى
اشتقاقات وصيَغ مولّدة فرضتْها آليّات التواصل أو التطوّرات العلمية
والفنية الحديثة. -2 جمعُه بين اللّغة الفصحى ولغة الاستعمال
اليوميّة التي كثيرًا ما تتوسط بين الفصحى والعاميّة، فتكون فصيحةً
مبسّطة، أو عاميّة مهذبة، انطلاقًا من أن الفصحى ليست في حالة قطيعة أو
عداوة مع العامية، كما يتوهم البعض، بل هما مستويان للغة واحدة، ولكل
منهما مجال ومقام، وبينهما تفاعل مستمر تنعكس نتائجه عليهما معًا. -3
الشمول وغزارة المادة؛ لعلّه الأغزر مادةً بين المعاجم المعاصرة الثنائيّة
اللّغة. ومع أنه معجم عامّ غير اختصاصيّ، فقد حوى، إلى جانب مفردات الحياة
العامّة، عددًا وافرًا من المصطلحات العلميّة والفنيّة في مختلف فروع
العلم والفن. -4 عدم الاكتفاء بترجمة مفردات عربية بما يقابلها في
اللّغة الفرنسية من مترادفات، بل تضمّن، إلى ذلك، عددًا كبيرًا من
التعابير ذات الدلالات الحقيقيّة والمجازيّة التي توضح معنى المفردات
وتُشير إلى وجه استعمالها ودخولها في تركيب العبارات. -5 سهولة البحث
فيه بحيث أن اللفظة مُدْرَجَةٌ كما هي في موقعها الألفبائيّ، من دون أن
يُرَدّ الجمع إلى المفرد، أو المزيد إلى المجرّد، أو المشتقّ إلى الأصل،
ومن دون إحالة لفظ إلى آخر. ألا تعتقد أن تأليف المعاجم هو حالة مستمرة؟ نرجو
أن يكون عملنا هذا وسيلة عملية مفيدة للطلاّب والمترجمين والمثقفين، وفي
المدى الأبعد، أن يكون منطلقًا لمحاولات جديدة يستفيد منه معجميّو
المستقبل، فيطوّرون ويدقّقون ويضيفون ما يستجدّ من مفردات الحضارة وما
تُقِرُّهُ المجامع العلميّة من تعريب مصطلحات، كما كانت أعمال أسلافنا
وسابقينا من المعاصرين، منطلقًا مفيدًا لنا. فالمعجم، بطبيعته، عمل
جَماعيّ، ولا تُنفَض اليد منه إلاّ لتعود إليه تدقيقًا وتصحيحًا وحذفًا
وإضافة…
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق