رضوان السيد
ما ظلم الإسلام دينا ومجتمعات، كما ظلم على مدى العقدين الماضيين. فقد صورته المقاربات الشاملة منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، باعتباره الخصم الوحيد الباقي للحضارة الغربية وقيمها ومستقبل العالم المتحضر. حتى صار المعتدلون هم الذين يقولون إن الإسلام معتدل في الأصل، لكنّ المتشددين استولوا عليه، وعلى «المعتدلين» العمل على استعادته. وراح الذين يريدون التأصيل في كل شيء إلى قراءة أصول الإسلام وحضارته منذ ظهوره في القرن السابع الميلادي. وهكذا انطلقت من جديد ثلاث رؤى استشراقية واستراتيجية، تريد كل منها «تفسير الظاهرة الأصولية الإسلامية». فقال فريق من الدارسين (الفرنسيين على الخصوص) إن الإسلام دين صحراوي، وقد انتشر في البوادي والسهوب المحاذية للصحارى الكبرى التي امتد إليها. والتأزم الحاصل فيه اليوم جاء نتيجة اصطدامه من جديد بالحضارة العالمية لأنه لا يزال في روحه صحراويا متقشفا ويتأبى على التطور. وقد نسب هؤلاء هذه الرؤية في أصولها إلى ابن خلدون، مع أن الرجل كان يفسر وحسب قيام الدول واندثارها لدى العرب والبربر والترك. وقال فريق آخر (الغالب فيه الأنجلو سكسون وصولا إلى الأميركيين) إن الإسلام دين إمبراطوري، وقد أنشأ إمبراطوريات عظمى سادت لقرون. وقد ووجهت تلك الإمبراطوريات في القرنين الأخيرين بالاستعمار والإمبريالية، وحدث التأزم الكبير بسبب انهيار تلك الإمبراطوريات، وسيطرة قوى أوروبية وغربية على سائر عوالمه. وعندما يثور المسلمون اليوم وعلى رأسهم العرب، على تلك القوى الجديدة؛ فلأن ذكريات الإمبراطورية ما خمدت بعد، كما أن المسلمين يأبون الاعتراف بالوقائع الجديدة، فيحاولون التأقلم معها، والتفكير في مستقبل آخر. وقال فريق ثالث ادعى أنه الأقل شمولية وتأصيلا إن كل الديانات الكبرى مرت بمراحل شاسعة كانت فيها الغلبة للديني والماورائي على المدني والإنساني. وقد كان ذلك بارزا على مدى القرون الوسطى في عالم الغرب المسيحي الكاثوليكي. وقد جرى إصلاح ديني في أوروبا فصل الدين عن الدولة، بينما انصرف الآسيويون الكبار إلى ابتداع ملاءمة بين قيمهم الدينية والقيم الغربية التي صارت هي حضارة العالم. وما حصل شيء مشابه في عالم الإسلام، لا على المثال الأوروبي، ولا على المثال الآسيوي. ولذلك ثارت روح الإسلام المحافظة على الحداثة الغربية والعالمية. والمطلوب القيام الآن بإصلاح ديني للفصل أو التلاؤم! واستنادا إلى هذه الرؤى والمقاربات، انطلقت من جهة حركات الفيالق والأساطيل لضرب الثوران الإسلامي الجديد، كما تحدث كثيرون عن «حرب أفكار» لمواجهة الاتجاهات المتشددة في الإسلام، وفرض الإصلاحات التي رأت تلك الجهات ضرورتها لاستئناس العرب والمسلمين ضمن العولمة وطوفانها الجارف. بيد أن المشكلات الضخمة التي واجهتها الحركتان العسكرية والثقافية، ألقت بظلال كثيفة على شتى المقاربات السالفة الذكر، فشاعت الحيرة، وتراجعت التأويلات الشاملة، وانصب الاهتمام على تجميد العرب والمسلمين في الأوضاع التي هم عليها، دونما تفكير كبير بالإمكانيات والاحتمالات الأخرى للموقف. وقد كان جل ما استطاع ذوو النيات الحسنة القيام به الإسراف في الحديث عن حوار الحضارات أو حتى عن ائتلاف الحضارات وتعاونها، في الوقت الذي أصر فيه كبار الساسة الأوروبيين على أن سياسات التعددية الثقافية فشلت، وأن المسلمين لا يمكن العيش معهم بالشروط التي يريدونها، ولا بشروط المواطنة ومقتضياتها. إلى أن انهارت تلك الخطابات جميعا عندما تحرك الجمهور العربي في بلدان جنوب المتوسط، والتي وقف الغربيون والآسيويون إزاءها مفاجَئين وعاجزين عن الفهم في البداية. ثم بدأوا بالمراجعة والتأمل ووضع الخطط لمواجهة الأوضاع الجديدة التي فرضتها الحركات الشعبية المنطلقة. كان التشخيص الأولي أن هذه التحركات «المدنية» الزاخرة لا تختلف عن حركات الجمهور الأوروبي عندما انهار جدار برلين، وعندما حققت دول أوروبا الشرقية نقلتها الجديدة. بيد أن الأوضاع الجديدة تتميز أيضا بسيولة شديدة، وتحمل مخاطر من زيادة الهجرة إلى أوروبا القريبة، وإلى إمكانيات الاضطراب والفوضى.
على أن الذي يهمنا هنا بدء الانقلاب على تلك الرؤى الشاملة والشمولية، والحديث من جديد عن حضارة الإسلام وسلميته، وأن جمهوره بسبب من ذلك لا يقف في مواجهة العصر، وإنما هو جزء منه، ولا تريد الشعوب العربية والإسلامية إلا ما أرادته وتريده شعوب العالم أجمع، من حكم صالح، وسلام مع النفس والعالم، وانتظام مرغوب بين الديني والأخلاقي والاجتماعي والسياسي. وأمامي اليوم كتابان، أحدهما لسامي زبيدة وهو بعنوان: «ما وراء الإسلام، قراءة جديدة للشرق الأوسط». والآخر لباتريشيا ريسو وهو بعنوان: «التجارة والإيمان، ثقافة المسلمين وتجارتهم في المحيط الهندي». وكتاب ريسو قديم يعود إلى عام 1995، وإنما أعيد نشره الآن على عجل، أما كتاب زبيدة فصدر عشية التطورات الحاصلة بالعالم العربي مشرقا ومغربا. ومع أنه لا علاقة بين الكتابين في المضامين، لكن الأهداف تبقى واحدة، وهي الذهاب إلى أن الرؤى السالفة الذكر لا علاقة لها بأصول الإسلام ولا بطبيعته وامتداداته ومصائره. ينصب كتاب زبيدة على بيان خطل الرؤية الأنثروبولوجية والجغرافية التي تعتبر نفسها خلدونية، ويقودها الأنثروبولوجي الكبير الراحل إرنست غلنر. ففي فصل الكتاب الأول يتتبع زبيدة بالنقد كتاب غلنر المسمى: «المجتمع الإسلامي»، والذي يستند إلى فهم خاص لابن خلدون في متابعة التطورات الحاصلة في الإسلام المعاصر، ومن ضمن ذلك الظاهرة الأصولية. ففي أصل الإسلام الصحراوي هذا، بحسب غلنر - ودون أن تكون هناك مؤسسة دينية قوية - يحتل العلماء منزلة رفيعة تتعلق بتجديد الدين والإيمان. وفي الظروف التاريخية العادية لا يتدخل العلماء بشكل مباشر في مسائل الشأن العام. إنما في ظروف التأزم التي عرفها العرب والمسلمون في العقود الأخيرة، وعلى وقع ذلك التأزم شعرت النخب العالمة السلفية وغيرها أن الدين في خطر، فتدخلت بأشكال مختلفة وبخطابات أصالية، أفضت إلى الواقع الراهن الحافل بحركات الصحوة الإسلامية. ويذهب سامي زبيدة إلى أن هذا التفسير مفوت من أساسه. فابن خلدون ما كان يفسر غير طرائق قيام الدول في جزء من عالم الإسلام. أما التأزم الحاصل في نظره فقد كان سببه اختلال العصبيات التي تقيم الدول بالاقتران بدعوة دينية جديدة. وهو ما كان يرى أن للعلماء دورا لا في التأزم ولا في إزالته. وهو يسخر من اعتقاد بعضهم - في زمنه - أن زمنهم قد أتى بسبب ضعف السلطات القائمة. ويلاحظ زبيدة هنا أن الحركات الإسلامية المعاصرة، ما أنشأها العلماء، وإنما نشأت أحيانا في مواجهتهم، وهي حركات سياسية في الغالب تعتمد الدين شعارا، أما عملها فهو شكل من أشكال الصراع على السلطة. وإذا وصلنا إلى إيران وثورتها الإسلامية فإن العصبية القبلية ما لعبت دورا فيها، وللعلماء سلطة في المجتمعات الشيعية من خلال المؤسسة، وهو ما لا يتوافر في عالم الإسلام السني، الذي يمثل الغالبية ضمن الإسلام منذ نحو ألف عام. أما الفصول الأخرى في الكتاب فتدرس الحركات الثقافية والسياسية في الشرق الأوسط والعالم العربي، والمشكلات فيهما لا تختلف كثيرا أو قليلا عنها في سائر أجزاء ما كان يعرف بالعالم الثالث إبان الحرب الباردة.
وتبدأ باتريشيا ريسو من مكان آخر، وللهدف نفسه: إثبات أن أصول الإسلام ليست صحراوية وليست متشددة. ثم إن امتداداته جميعا هي حضرية وبحرية، والمثال الرئيس على ذلك ثقافة المسلمين وتجارتهم وحضارتهم في المحيط الهندي. فالجزيرة العربية تقع على المحيط الهندي والبحر الأحمر، وتمتد من ناحية أخرى إلى شواطئ المتوسط. وقد كانت التجارة قائمة مع هذه المديات البحرية قبل ظهور الإسلام. ثم إنها اشتدت وامتدت عبر البحار بعد القرن السابع الميلادي، حتى صارت البحار مسارحها الرئيسية التي انتشر الإسلام عبرها إلى شرق آسيا وأوروبا والعالم. وهنا تهتم المؤلفة بأمر آخر وهو الدعوة إلى الإسلام. فالدين الإسلامي ما امتد إلى شرق آسيا من طريق غزاة الصحراء، بل من طريق التجارة مع اليمن وحضرموت وبقاع الجزيرة الأخرى. وقد نشر هؤلاء التجار العرب والبربر والأفارقة ثقافاتهم ودينهم في تلك المديات الشاسعة، وما عرفت تلك الثقافة المزدهرة بين الجزيرة والملايو والهند والصين السلاح إلا مع المدافع البرتغالية وسفنهم الحربية في القرن السادس عشر، بعد أن اكتشف الغربيون رأس الرجاء الصالح! إن الحديث عن هذه الطبيعة أو تلك للإسلام والمسلمين هو حديث استشراقي واستراتيجي، والمقصود به الاختزال والابتزاز ولا شيء غير ذلك. وقد أدى إلى سوء فهم كبير سبق أن أشار إليه المؤرخ توبي هاف في كتابه: «الإسلام، وأوروبا، والصين»، كما أشار إليه المؤرخ الهندي بانيكار في كتابه: «آسيا والسيطرة الغربية». لقد كانت هناك شراكة حضارية بين الحضارات الآسيوية، وأوروبا، والإسلام. وكان المسلمون هم الذين يقودون العملية قبل ظهور الاستعمار الأوروبي والعسكرة الأوروبية. وعلى من يريد أن يفهم الإسلام أن يتأمل في حضارته التاريخية وامتداداته بالذات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق