السبت, 26 مارس 2011
تواصل مجلة «دبي الثقافية» الإماراتية دورها الثقافي الرائد الذي لا يزال يواصل إشعاعه خارج حدود دولة الإمارات العربية المتحدة في كل أرجاء الوطن العربي من الخليج إلى المحيط، منذ صدور عددها الأول في تشرين الأول (اكتوبر) 2004، فأصدرت كتابها الثالث والثلاثين لشهر شباط (فبراير) 2010، الذي يوزع هدية مع عدد المجلة كل شهر، تحت عنوان «العمارة الإسلامية من الصين إلى الأندلس» في 175 صفحة من القطع المتوسط؛ للدكتور خالد عزب، وهو يقدم دراسة أكاديمية موثقة عن التراث المعماري الإسلامي عبر قرونه الطويلة التي بسطت فيها الدولة العربية الإسلامية سيطرتها، عبر قارات العالم القديم الثلاث، وعلى مساحة جغرافية شاسعة امتدت من الأندلس في جنوب غربي أوروبا إلى الصين في جنوب شرقي آسيا.
والتراث المعماري الإسلامي ثروة حضارية لا بد من العناية بها وحمايتها، ولا بد من دراستها وإيضاح خصائصها وفوائدها، والعمل على إكمال مسيرة تطورها، لتصبح أكثر ملاءمة لظروف العصر والتحولات الحضارية، لأن العمارة هي وعاء الحضارة، وتمثل الهوية الثقافية والمستوى الإبداعي والجمالي للإنسان، ولهذا لا بد من التمسك بأصالتها، والعمل على درء الغزو المعماري الغريب الذي غير طابع المدينة الإسلامية، وجعلها كوزموبوليتانية فاقدة الهوية والسمة، منقطعة عن الجذور والبيئة والإنسان.
وشهد فن العمارة الإسلامية تطوراً كبيراً منذ أيام الإسلام الأولى، ولهذا هناك مجموعة من الطرز المعمارية الإسلامية تختلف وفق تاريخ ظهورها، وأهمها: الطراز العربي البسيط، والطراز الأموي، والطراز العباسي، ووفق المناطق والمقاطعات نجد: الطراز المراكشي، الأندلسي، الفاطمي، الأيوبي، المملوكي، السلجوقي، الفارسي، الصفوي، الهندي، المغولي، التركي العثماني.
ونتيجة لهذا التنوع الكبير يخشى الكثير من الباحثين الدخول إلى معترك الدراسات في العمارة الإسلامية لصعوبتها أولاً، ولما تحتاجه من مجهود كبير في البحث والتقصي، ولكن الدكتور عزب تسلح أكاديمياً لدخول هذا المعترك في محاولة لتوضيح أهمية العمارة في البناء الحضاري للأمة الإسلامية والتعريف بأهمية العمران كمظهر ثقافي وحضاري، وتوثيق هذا الإبداع العربي في مجال التحضر والتمدن والعمران، وليقدم رؤية متكاملة لرحلة العمارة الإسلامية منذ عصورها المبكرة في المدينة المنورة، حين تشكلت في عهد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ملامح المدينة العمرانية والمعمارية، بدءاً من عمارة مسجده ومسكنه والسوق ومصلى العيد، إلى التحصين الحربي للمدينة.
والدكتور خالد عزب من خلال كتابه، الذي يعد استمراراً لمحاولاته المستمرة لسبر أغوار المدن والعمارة الإسلامية، ومحاولة إعمال العقل لربط التراث المعماري الإسلامي ببعضه من حيث الشكل، والمضمون، والمكونات، يرى أن هناك ثلاثة مستويات من العمائر في العمارة الإسلامية، المستوى الأول: يتعلق بالسلطة، ويتمثل في مقر الحكم أياً كان موقعه من العاصمة أو المدينة. والمستوى الثاني: يتعلق بالخدمات والمرافق داخل المدينة، وهذا المستوى مشترك بين السلطة والمجتمع، ويبرز بصفة خاصة في مؤسسة يمكن أن نعتبرها وسيطة، هي مؤسسة الأوقاف. والمستوى الثالث: عمائر المحكومين، وهى لا تخضع لسيطرة السلطة إذ إن حركة العمران داخل الأحياء تخضع للسيطرة الجماعية لقاطنيها ولحقوق أفراد المجتمع. ويبقى ظل السلطة وطبيعتها ومرجعيتها متحكماً في نمط عمارة المجتمع متبلوراً فيما عرف بالطراز المعماري.
وعلى رغم تنوع الدول التي حكمت العالم الإسلامي إلا أن الدين الإسلامي شكل المرجعية الأساسية للعمارة الإسلامية، فعلى رغم تنوع طرز العمارة الإسلامية من الصين إلى الأندلس، إلا أن روح الإسلام ظلت هي الغالبة على هذه الطرز، فأصبحنا نرى تنوعاً معمارياً مثيراً ولافتاً للانتباه، لكن داخل هذا التنوع هناك وحدة حضارية لا تنفي خصوصية أي شعب وأي حضارة داخل العالم الإسلامي، فالمسجد في الصين معماره اكتسب الروح الصينية، بينما المسجد في الهند انطبع بالموروث المعماري الهندي، والمسجد في شبه الجزيرة العربية له سماته الخاصة، بينما المسجد في شرق أوروبا له سمات نرى فيها الروح الأوروبية المعمارية، ولكن كل هذه المساجد تتفق في وظيفتها كأماكن عبادة للصلاة، وفي كل منها وحدات معمارية ثابتة هي المحراب والمنبر والمئذنة ومكان الصلاة، كما تتفق في استخدام الخط العربي كعنصر زخرفي أساسي.
وتتميز الحضارة الإسلامية بالتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية. ولهذا ظهر الكثير من المدن التاريخية في ظلال الحكم الإسلامي كالكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والرقة والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائر وغيرها. كما خلفت الحضارة الإسلامية مدناً متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كاسطنبول بمساجدها والقاهرة ودمشق بعمائرهما الإسلامية وحلب وحمص وبخارى وسمرقند ودلهي وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة وأشبيلية ومرسية وسراييفو وأصفهان وتبريز ونيقيا والقيروان والحمراء وغيرها من المدن الإسلامية. وكان تخطيط المدن سمة العمران في ظلال الخلافة الإسلامية التي امتدت من الصين إلى تخوم جبال البرانس بفرنسا. وكانت المدن التاريخية متاحف عمرانية تتسم بالطابع الإسلامي.
والكتاب يقع في فصلين، يمثل كل واحد منهما محطة من محطات رحلة العمارة الإسلامية من القرن السابع الميلادي حتى القرن العشرين. في الفصل الأول تناول المدخل إلى فقه العمارة الإسلامية فأوضح أن الحضارة الإسلامية زخرت بتجارب عمرانية ومعمارية لا حصر لها قامت على القواعد التي ترتبت على حركة العمران، فقد تعامل العرب مع المدن القديمة والجديدة وفقاً لأحكام الشرع التي قسمت البنايات إلى بناء واجب كدور العبادة والحصون والأسوار، وبناء مندوب كالمنائر والأسواق، وبناء مباح كبناء المساكن والدور ليحفظ الناس فيها أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، والبناء المحظور كبناء المنكرات والخمارات ودور البغاء، وهذا النوع الأخير من الأبنية أزاله المسلمون من المدن القديمة، أما المدن الجديدة فقد تم تخطيطها طبقاً لظروف عصر التخطيط ولوسائل المواصلات التي كانت مستخدمة آنذاك.
ثم قدم المؤلف جانباً مهملاً في دراسة تراث العمارة الإسلامية، وهو القواعد المنظمة لحركة التخطيط العمراني للمدن الإسلامية لجهة التخطيط الأفقي أو الرأسي. هذه القواعد كما يقول هي نتيجة لاحتكاك المعماريين بالتقاليد الموروثة وأحكام الدين الإسلامي، وكذلك الخبرات المعمارية وحاجات المجتمع، وتشكلت في ما أسماه «فقه العمارة الإسلامية». ويضيف أن دراسة العمارة الإسلامية على يد المستشرقين جاءت ناقصة لعدم درايتهم بهذه القواعد، وورث ذلك علماء الآثار من العرب، نظراً الى أن اكتشاف هذه القواعد لا يتم إلا من خلال التبحر في علم أصول الفقه ومخطوطات فقه العمارة ودراسة طرز العمارة الإسلامية.
ثم عرض بعض القواعد الحاكمة للعمارة، مثل: حق الجوار، وحق التعلية، وحق الهواء، وكشف عن أن العمارة وقوانينها لهما أبعاد اجتماعية أيضاً، وركز على عناصر رئيسة وهي: المسجد الجامع، والمدارس، والبيمارستانات، والحمامات والقلاع والأسوار. فالمضمون في تصميم المسجد هو تهيئة الفراغ المعماري الذي يساعد المسلمين على الخشوع والرهبة، وهم واقفون بين يدي الله تعالى متجهين في صفوفهم المتراصة قبل المسجد الحرام، وفي الوقت نفسه هو مكان يحميهم من التقلبات الجوية والظروف المناخية. ولاحظ من تتبع مكانة المسجد الجامع في المدينة الإسلامية على مر العصور أنه كانت له في صدر الإسلام المكانة الأولى التي تبلور حولها التكوين الطبيعي للمدينة، ومع مرور الوقت بدأت الشخصية الفردية للحاكم تظهر بالتدريج، فظهر اهتمامه برفاهيته وحاشيته وجنده، فأصبحت عمارة المساجد تمثل عملاً من أعمال التفاخر عند الحكام.
ويعتبر المسلمون المسجد بيتاً من بيوت الله تؤدى فيه شعائر الصلوات الخمس وصلاة الجمعة، ويتم فيه تحفيظ القرآن. وفي كل مسجد قبلة توجه المسلمين في صلاتهم شطر الكعبة بيت الله الحرام. وأول مسجد أقيم في الإسلام هو مسجد الرسول في المدينة المنورة (مسجد قباء). وكان ملحقاً به بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم). وانتشرت إقامة المساجد كبيوت لله في كل أنحاء العالم، وتنوعت في عمارتها وفق طرز العمارة في الدول التي دخلت في الإسلام. لكنها كلها موحدة في الإطار العام. وفي كل مسجد منبرٌ لإلقاء خطبة الجمعة من فوقه. وفي بعض المساجد أماكن معزولة مخصصة للنساء. وللمسجد مئذنة واحدة أو أكثر ليرفع المؤذن من فوقها الآذان للصلاة وتنوعت طرزها. وبعض المساجد يعلو سقفه قبة متنوعة في طرزها المعمارية.
وانتقل المؤلف إلى الحديث عن القواعد الحاكمة لتصميم المسكن الإسلامي من خلال دراسة عمارة منازل بغداد وصنعاء والقاهرة ورشيد وغرناطة والإمارات. وفي عرضه المؤسسات الخدمية نراه يبدأها بالمؤسسات التعليمية كالكتاتيب التي كان يدرَّس فيها الحساب والقرآن الكريم واللغة العربية، منتقلاً منها إلى المدارس التي تبلورت فكرتها في القرن الرابع الهجري، مركزاً دراسته على نموذج «أكثر هذه الأنظمة دقة» وهو المدرسة المستنصرية التي شيدها الخليفة العباسي المستنصر بالله في بغداد. ثم عرض للبيمارستانات، كالبيمارستان المنصوري في القاهرة والنوري في دمشق. كما تطرق إلى الحمامات في العمارة الإسلامية فقدم وصفاً شاملاً لمكوناتها من خلال وثيقة تعود لعام 83 هجري، ثم تتبع تطورها بدءاً من العصر الأيوبي وانتهاءً بالعصر المملوكي، كما تعرض للأسبلة، وهي منشآت كانت تُستخدم لتخزين المياه لسقي المارة في سبيل الله.
ثم تناول منشآت جديرة بالدراسة هي منشآت الرفق بالحيوان: أحواض سقي الدواب، والإسطبلات، موضحاً مدى حرص المعماريين المسلمين على ابتكار منشآت لتقديم الماء للحيوانات التي يستخدمها الإنسان في حياته، ويشبّهها المؤلف اليوم بالمحطات التي تزود السيارات بالوقود، وكانت تلك المنشآت متمثلة في أحواض سقي الدواب في المدن وعلى طرق التجارة الرئيسة. ولم يفت المؤلف أن يكشف عن المنشآت الصناعية في العمارة الإسلامية، وركز على طواحين الغلال، التي تدار بطرق عدة منها الدواب والماء والهواء. كما خصص قسماً للاستحكامات الحربية، راصداً تطورها وأنواعها وأثر الحروب الصليبية في تطور عمارتها، كما عكس أثر المدفعية عليها. واختتم الفصل بتوضيح مختصر لأهمية توظيف التراث المعماري الإسلامي في تربية النشء لنبني من خلاله أجيال المستقبل.
أما الفصل الثاني من الكتاب «نماذج من التراث المعماري الإسلامي» فيأخذنا فيه عزب في رحلة سياحية منتقاة بعناية شديدة تكفل أخذ فكرة متكاملة ومتنوعة عن تراث العمارة الإسلامية، بدأها بتفصيل لعمارة المدينة المنورة في عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فتحدث عن عمارة المسجد النبوي وعمارة المساكن والأسواق ومصلى العيد ودور الضيافة، وتحصين المدينة المنورة. انتقل بعدها ليرصد تطور عمارة مسجد عمرو بن العاص في القاهرة على مر العصور، كأول مسجد جامع بعد الفتح العربي لها. ثم عرج بعد ذلك على مجموعة السلطان قلاوون التي تعد أعظم المنشآت المملوكية الباقية في القاهرة، وتضم مدرسة وبيمارستان وقبة.
ولم يترك المؤلف مساجد الصين من دون أن يتعرض لها بدراسة تفصيلية، فبيّن أن هذه المساجد تأثرت بروح العمارة الإسلامية وبعمارة المساجد في آسيا الوسطى، وبالتقاليد المعمارية الصينية في الوقت نفسه، ومنها مسجد هوايتشنغ في مدينة قوانغشو، ومسجد تشيغينغ ومسجد نيوجيه في بكين، ومسجد دينفتشوا في ولاية دينغشيان، ومسجد سونفجيانغ في شنغهاي، ومسجد هوجيويه في مدينة شيآن، وجامع عيدكاه في مدينة كاشغر، وجامع تونغشين، وجامع هوهيهوت، ومسجد دونغقوان في مدينة شينينغ، موضحاً أنها لا تزال بحاجة إلى المزيد من الدراسات للتعرف إليها وإلى التراث الإسلامي في هذه البلاد.
ثم تطرق إلى العمارة الإسلامية في رشيد فأوضح أهميتها في العصر الإسلامي الناتجة من كونها ميناء حربياً ثم ميناء تجارياً مهماً، وذكر تراثها المعماري الغني ما بين المساجد: زغلول، النور، الجندي، العرب، المحلي، دومقسيس، أحمد أبي التقى، العباسي. والمنازل، والحمامات، والمنشآت الصناعية، والحربية.
كما تناول العمارة الإسلامية في عكا وأبرزها مسجد أحمد باشا الجزار، وحمام الباشا الذي بناه الجزار عام 1795 ميلادية، والحمام الشعبي، وتحصينات عكا وقلاعها وأسوارها وأبراجها، ثم انتقل الى العمارة الإسلامية في حلب ما بين الأسواق والمنشآت الصناعية والمنازل والمساجد والجوامع والمدارس والبيمارستانات والمطبخ العجمي، والأسوار والأبواب والقلاع، والعمارة الإسلامية في بخارى مستشهداً بمسجد نمازكاه ومئذنة كلان وقلعة أرك.
أما أبرز نماذج العمارة الإسلامية في الأندلس فيتمثل في قصور الحمراء الشهيرة. وكما هو معروف فإن الحمراء كانت مقر حكم بني الأحمر، آخر مَن حكم غرناطة من المسلمين، وأسسها محمد بن يوسف بن نصر في الثلث الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، والمجموعة الحالية لقصور الحمراء يرجع الفضل في إنشائها إلى بعض سلاطين بني نصر، الذين أضاف كل منهم قصراً أو ابتنَى مجلساً داخل برج من الأبراج تتقدمه بِركة اصطناعية، أو زوِّد أحد الحصون بصحن تتوسطه نافورة. وكما يقول المؤلف فإن قصور الحمراء تمثل آخر ما تبقى في الأندلس معمارياً وفنياً، ويمكن اعتبارها أعلى ما وصل إليه الفن المعماري والفنون الزخرفية بالأندلس. ويضيف: «بقيت قصور الحمراء ذكرى مؤلمة للأندلس، فوجودها شاهد عيان على انحسار الإسلام عن الأندلس، ولطالما ذكرها المؤرخون مع ما ارتبطت به من أحداث في كتاباتهم، فظلت باقية في سيرة التاريخ».
وكما تحدث عن العمارة الإسلامية في الصين والأندلس، سلط الضوء على العمارة الإسلامية في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي وعماراتها من مساجد وحمَّامات ومدارس في أكثر من عهد إسلامي: الأيوبي، الفاطمي، المملوكي والعثماني، وسلِّط الضوء على العمارة في العراق وسورية وفلسطين. والكتاب ممتع في تصفّحه وقراءته، يعرّف من يقرأه بتفاصيل العمارة الإسلامية من مساجد وقلاع وأسبلة وحمامات، في كل عصور ازدهار الحضارة الإسلامية.
والمؤلف بهذه الصورة في هذا الكتاب يخرج عن المألوف؛ فيستعين تارة بالدراسات التاريخية، وتارة أخرى الاجتماعية، وثالثة المعمارية، ورابعة بتخطيط المدن، مستخدماً مصادر علمية رصينة أولية، نراها متنوعة، خرج منها برؤية محددة المعالم متكاملة الأركان مختلفة كل الاختلاف عن الدراسات السابقة، بعيدة كل البعد من الجمود، في قالب فكري، وأسلوب سلس يمتع القارئ، ويقدم له المعلومة تلو الأخرى بطريقة يسيرة بسيطة. ولهذا، فإنه يستحق القراءة والاقتناء، لأنه ممتع في تصفحه وقراءته ومعرفة تفاصيل العمارة الإسلامية من مساجد وقلاع وأسبلة وحمامات، بخاصة أنه لا يتناول العمارة الإسلامية في الصين والأندلس فحسب، وإنما في كل بقاع العالم الإسلامي كافة «من الصين إلى الأندلس».
والتراث المعماري الإسلامي ثروة حضارية لا بد من العناية بها وحمايتها، ولا بد من دراستها وإيضاح خصائصها وفوائدها، والعمل على إكمال مسيرة تطورها، لتصبح أكثر ملاءمة لظروف العصر والتحولات الحضارية، لأن العمارة هي وعاء الحضارة، وتمثل الهوية الثقافية والمستوى الإبداعي والجمالي للإنسان، ولهذا لا بد من التمسك بأصالتها، والعمل على درء الغزو المعماري الغريب الذي غير طابع المدينة الإسلامية، وجعلها كوزموبوليتانية فاقدة الهوية والسمة، منقطعة عن الجذور والبيئة والإنسان.
وشهد فن العمارة الإسلامية تطوراً كبيراً منذ أيام الإسلام الأولى، ولهذا هناك مجموعة من الطرز المعمارية الإسلامية تختلف وفق تاريخ ظهورها، وأهمها: الطراز العربي البسيط، والطراز الأموي، والطراز العباسي، ووفق المناطق والمقاطعات نجد: الطراز المراكشي، الأندلسي، الفاطمي، الأيوبي، المملوكي، السلجوقي، الفارسي، الصفوي، الهندي، المغولي، التركي العثماني.
ونتيجة لهذا التنوع الكبير يخشى الكثير من الباحثين الدخول إلى معترك الدراسات في العمارة الإسلامية لصعوبتها أولاً، ولما تحتاجه من مجهود كبير في البحث والتقصي، ولكن الدكتور عزب تسلح أكاديمياً لدخول هذا المعترك في محاولة لتوضيح أهمية العمارة في البناء الحضاري للأمة الإسلامية والتعريف بأهمية العمران كمظهر ثقافي وحضاري، وتوثيق هذا الإبداع العربي في مجال التحضر والتمدن والعمران، وليقدم رؤية متكاملة لرحلة العمارة الإسلامية منذ عصورها المبكرة في المدينة المنورة، حين تشكلت في عهد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ملامح المدينة العمرانية والمعمارية، بدءاً من عمارة مسجده ومسكنه والسوق ومصلى العيد، إلى التحصين الحربي للمدينة.
والدكتور خالد عزب من خلال كتابه، الذي يعد استمراراً لمحاولاته المستمرة لسبر أغوار المدن والعمارة الإسلامية، ومحاولة إعمال العقل لربط التراث المعماري الإسلامي ببعضه من حيث الشكل، والمضمون، والمكونات، يرى أن هناك ثلاثة مستويات من العمائر في العمارة الإسلامية، المستوى الأول: يتعلق بالسلطة، ويتمثل في مقر الحكم أياً كان موقعه من العاصمة أو المدينة. والمستوى الثاني: يتعلق بالخدمات والمرافق داخل المدينة، وهذا المستوى مشترك بين السلطة والمجتمع، ويبرز بصفة خاصة في مؤسسة يمكن أن نعتبرها وسيطة، هي مؤسسة الأوقاف. والمستوى الثالث: عمائر المحكومين، وهى لا تخضع لسيطرة السلطة إذ إن حركة العمران داخل الأحياء تخضع للسيطرة الجماعية لقاطنيها ولحقوق أفراد المجتمع. ويبقى ظل السلطة وطبيعتها ومرجعيتها متحكماً في نمط عمارة المجتمع متبلوراً فيما عرف بالطراز المعماري.
وعلى رغم تنوع الدول التي حكمت العالم الإسلامي إلا أن الدين الإسلامي شكل المرجعية الأساسية للعمارة الإسلامية، فعلى رغم تنوع طرز العمارة الإسلامية من الصين إلى الأندلس، إلا أن روح الإسلام ظلت هي الغالبة على هذه الطرز، فأصبحنا نرى تنوعاً معمارياً مثيراً ولافتاً للانتباه، لكن داخل هذا التنوع هناك وحدة حضارية لا تنفي خصوصية أي شعب وأي حضارة داخل العالم الإسلامي، فالمسجد في الصين معماره اكتسب الروح الصينية، بينما المسجد في الهند انطبع بالموروث المعماري الهندي، والمسجد في شبه الجزيرة العربية له سماته الخاصة، بينما المسجد في شرق أوروبا له سمات نرى فيها الروح الأوروبية المعمارية، ولكن كل هذه المساجد تتفق في وظيفتها كأماكن عبادة للصلاة، وفي كل منها وحدات معمارية ثابتة هي المحراب والمنبر والمئذنة ومكان الصلاة، كما تتفق في استخدام الخط العربي كعنصر زخرفي أساسي.
وتتميز الحضارة الإسلامية بالتنوع العرقي في الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية. ولهذا ظهر الكثير من المدن التاريخية في ظلال الحكم الإسلامي كالكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والرقة والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائر وغيرها. كما خلفت الحضارة الإسلامية مدناً متحفية تعبر عن العمارة الإسلامية كاسطنبول بمساجدها والقاهرة ودمشق بعمائرهما الإسلامية وحلب وحمص وبخارى وسمرقند ودلهي وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة وأشبيلية ومرسية وسراييفو وأصفهان وتبريز ونيقيا والقيروان والحمراء وغيرها من المدن الإسلامية. وكان تخطيط المدن سمة العمران في ظلال الخلافة الإسلامية التي امتدت من الصين إلى تخوم جبال البرانس بفرنسا. وكانت المدن التاريخية متاحف عمرانية تتسم بالطابع الإسلامي.
والكتاب يقع في فصلين، يمثل كل واحد منهما محطة من محطات رحلة العمارة الإسلامية من القرن السابع الميلادي حتى القرن العشرين. في الفصل الأول تناول المدخل إلى فقه العمارة الإسلامية فأوضح أن الحضارة الإسلامية زخرت بتجارب عمرانية ومعمارية لا حصر لها قامت على القواعد التي ترتبت على حركة العمران، فقد تعامل العرب مع المدن القديمة والجديدة وفقاً لأحكام الشرع التي قسمت البنايات إلى بناء واجب كدور العبادة والحصون والأسوار، وبناء مندوب كالمنائر والأسواق، وبناء مباح كبناء المساكن والدور ليحفظ الناس فيها أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، والبناء المحظور كبناء المنكرات والخمارات ودور البغاء، وهذا النوع الأخير من الأبنية أزاله المسلمون من المدن القديمة، أما المدن الجديدة فقد تم تخطيطها طبقاً لظروف عصر التخطيط ولوسائل المواصلات التي كانت مستخدمة آنذاك.
ثم قدم المؤلف جانباً مهملاً في دراسة تراث العمارة الإسلامية، وهو القواعد المنظمة لحركة التخطيط العمراني للمدن الإسلامية لجهة التخطيط الأفقي أو الرأسي. هذه القواعد كما يقول هي نتيجة لاحتكاك المعماريين بالتقاليد الموروثة وأحكام الدين الإسلامي، وكذلك الخبرات المعمارية وحاجات المجتمع، وتشكلت في ما أسماه «فقه العمارة الإسلامية». ويضيف أن دراسة العمارة الإسلامية على يد المستشرقين جاءت ناقصة لعدم درايتهم بهذه القواعد، وورث ذلك علماء الآثار من العرب، نظراً الى أن اكتشاف هذه القواعد لا يتم إلا من خلال التبحر في علم أصول الفقه ومخطوطات فقه العمارة ودراسة طرز العمارة الإسلامية.
ثم عرض بعض القواعد الحاكمة للعمارة، مثل: حق الجوار، وحق التعلية، وحق الهواء، وكشف عن أن العمارة وقوانينها لهما أبعاد اجتماعية أيضاً، وركز على عناصر رئيسة وهي: المسجد الجامع، والمدارس، والبيمارستانات، والحمامات والقلاع والأسوار. فالمضمون في تصميم المسجد هو تهيئة الفراغ المعماري الذي يساعد المسلمين على الخشوع والرهبة، وهم واقفون بين يدي الله تعالى متجهين في صفوفهم المتراصة قبل المسجد الحرام، وفي الوقت نفسه هو مكان يحميهم من التقلبات الجوية والظروف المناخية. ولاحظ من تتبع مكانة المسجد الجامع في المدينة الإسلامية على مر العصور أنه كانت له في صدر الإسلام المكانة الأولى التي تبلور حولها التكوين الطبيعي للمدينة، ومع مرور الوقت بدأت الشخصية الفردية للحاكم تظهر بالتدريج، فظهر اهتمامه برفاهيته وحاشيته وجنده، فأصبحت عمارة المساجد تمثل عملاً من أعمال التفاخر عند الحكام.
ويعتبر المسلمون المسجد بيتاً من بيوت الله تؤدى فيه شعائر الصلوات الخمس وصلاة الجمعة، ويتم فيه تحفيظ القرآن. وفي كل مسجد قبلة توجه المسلمين في صلاتهم شطر الكعبة بيت الله الحرام. وأول مسجد أقيم في الإسلام هو مسجد الرسول في المدينة المنورة (مسجد قباء). وكان ملحقاً به بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم). وانتشرت إقامة المساجد كبيوت لله في كل أنحاء العالم، وتنوعت في عمارتها وفق طرز العمارة في الدول التي دخلت في الإسلام. لكنها كلها موحدة في الإطار العام. وفي كل مسجد منبرٌ لإلقاء خطبة الجمعة من فوقه. وفي بعض المساجد أماكن معزولة مخصصة للنساء. وللمسجد مئذنة واحدة أو أكثر ليرفع المؤذن من فوقها الآذان للصلاة وتنوعت طرزها. وبعض المساجد يعلو سقفه قبة متنوعة في طرزها المعمارية.
وانتقل المؤلف إلى الحديث عن القواعد الحاكمة لتصميم المسكن الإسلامي من خلال دراسة عمارة منازل بغداد وصنعاء والقاهرة ورشيد وغرناطة والإمارات. وفي عرضه المؤسسات الخدمية نراه يبدأها بالمؤسسات التعليمية كالكتاتيب التي كان يدرَّس فيها الحساب والقرآن الكريم واللغة العربية، منتقلاً منها إلى المدارس التي تبلورت فكرتها في القرن الرابع الهجري، مركزاً دراسته على نموذج «أكثر هذه الأنظمة دقة» وهو المدرسة المستنصرية التي شيدها الخليفة العباسي المستنصر بالله في بغداد. ثم عرض للبيمارستانات، كالبيمارستان المنصوري في القاهرة والنوري في دمشق. كما تطرق إلى الحمامات في العمارة الإسلامية فقدم وصفاً شاملاً لمكوناتها من خلال وثيقة تعود لعام 83 هجري، ثم تتبع تطورها بدءاً من العصر الأيوبي وانتهاءً بالعصر المملوكي، كما تعرض للأسبلة، وهي منشآت كانت تُستخدم لتخزين المياه لسقي المارة في سبيل الله.
ثم تناول منشآت جديرة بالدراسة هي منشآت الرفق بالحيوان: أحواض سقي الدواب، والإسطبلات، موضحاً مدى حرص المعماريين المسلمين على ابتكار منشآت لتقديم الماء للحيوانات التي يستخدمها الإنسان في حياته، ويشبّهها المؤلف اليوم بالمحطات التي تزود السيارات بالوقود، وكانت تلك المنشآت متمثلة في أحواض سقي الدواب في المدن وعلى طرق التجارة الرئيسة. ولم يفت المؤلف أن يكشف عن المنشآت الصناعية في العمارة الإسلامية، وركز على طواحين الغلال، التي تدار بطرق عدة منها الدواب والماء والهواء. كما خصص قسماً للاستحكامات الحربية، راصداً تطورها وأنواعها وأثر الحروب الصليبية في تطور عمارتها، كما عكس أثر المدفعية عليها. واختتم الفصل بتوضيح مختصر لأهمية توظيف التراث المعماري الإسلامي في تربية النشء لنبني من خلاله أجيال المستقبل.
أما الفصل الثاني من الكتاب «نماذج من التراث المعماري الإسلامي» فيأخذنا فيه عزب في رحلة سياحية منتقاة بعناية شديدة تكفل أخذ فكرة متكاملة ومتنوعة عن تراث العمارة الإسلامية، بدأها بتفصيل لعمارة المدينة المنورة في عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فتحدث عن عمارة المسجد النبوي وعمارة المساكن والأسواق ومصلى العيد ودور الضيافة، وتحصين المدينة المنورة. انتقل بعدها ليرصد تطور عمارة مسجد عمرو بن العاص في القاهرة على مر العصور، كأول مسجد جامع بعد الفتح العربي لها. ثم عرج بعد ذلك على مجموعة السلطان قلاوون التي تعد أعظم المنشآت المملوكية الباقية في القاهرة، وتضم مدرسة وبيمارستان وقبة.
ولم يترك المؤلف مساجد الصين من دون أن يتعرض لها بدراسة تفصيلية، فبيّن أن هذه المساجد تأثرت بروح العمارة الإسلامية وبعمارة المساجد في آسيا الوسطى، وبالتقاليد المعمارية الصينية في الوقت نفسه، ومنها مسجد هوايتشنغ في مدينة قوانغشو، ومسجد تشيغينغ ومسجد نيوجيه في بكين، ومسجد دينفتشوا في ولاية دينغشيان، ومسجد سونفجيانغ في شنغهاي، ومسجد هوجيويه في مدينة شيآن، وجامع عيدكاه في مدينة كاشغر، وجامع تونغشين، وجامع هوهيهوت، ومسجد دونغقوان في مدينة شينينغ، موضحاً أنها لا تزال بحاجة إلى المزيد من الدراسات للتعرف إليها وإلى التراث الإسلامي في هذه البلاد.
ثم تطرق إلى العمارة الإسلامية في رشيد فأوضح أهميتها في العصر الإسلامي الناتجة من كونها ميناء حربياً ثم ميناء تجارياً مهماً، وذكر تراثها المعماري الغني ما بين المساجد: زغلول، النور، الجندي، العرب، المحلي، دومقسيس، أحمد أبي التقى، العباسي. والمنازل، والحمامات، والمنشآت الصناعية، والحربية.
كما تناول العمارة الإسلامية في عكا وأبرزها مسجد أحمد باشا الجزار، وحمام الباشا الذي بناه الجزار عام 1795 ميلادية، والحمام الشعبي، وتحصينات عكا وقلاعها وأسوارها وأبراجها، ثم انتقل الى العمارة الإسلامية في حلب ما بين الأسواق والمنشآت الصناعية والمنازل والمساجد والجوامع والمدارس والبيمارستانات والمطبخ العجمي، والأسوار والأبواب والقلاع، والعمارة الإسلامية في بخارى مستشهداً بمسجد نمازكاه ومئذنة كلان وقلعة أرك.
أما أبرز نماذج العمارة الإسلامية في الأندلس فيتمثل في قصور الحمراء الشهيرة. وكما هو معروف فإن الحمراء كانت مقر حكم بني الأحمر، آخر مَن حكم غرناطة من المسلمين، وأسسها محمد بن يوسف بن نصر في الثلث الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، والمجموعة الحالية لقصور الحمراء يرجع الفضل في إنشائها إلى بعض سلاطين بني نصر، الذين أضاف كل منهم قصراً أو ابتنَى مجلساً داخل برج من الأبراج تتقدمه بِركة اصطناعية، أو زوِّد أحد الحصون بصحن تتوسطه نافورة. وكما يقول المؤلف فإن قصور الحمراء تمثل آخر ما تبقى في الأندلس معمارياً وفنياً، ويمكن اعتبارها أعلى ما وصل إليه الفن المعماري والفنون الزخرفية بالأندلس. ويضيف: «بقيت قصور الحمراء ذكرى مؤلمة للأندلس، فوجودها شاهد عيان على انحسار الإسلام عن الأندلس، ولطالما ذكرها المؤرخون مع ما ارتبطت به من أحداث في كتاباتهم، فظلت باقية في سيرة التاريخ».
وكما تحدث عن العمارة الإسلامية في الصين والأندلس، سلط الضوء على العمارة الإسلامية في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي وعماراتها من مساجد وحمَّامات ومدارس في أكثر من عهد إسلامي: الأيوبي، الفاطمي، المملوكي والعثماني، وسلِّط الضوء على العمارة في العراق وسورية وفلسطين. والكتاب ممتع في تصفّحه وقراءته، يعرّف من يقرأه بتفاصيل العمارة الإسلامية من مساجد وقلاع وأسبلة وحمامات، في كل عصور ازدهار الحضارة الإسلامية.
والمؤلف بهذه الصورة في هذا الكتاب يخرج عن المألوف؛ فيستعين تارة بالدراسات التاريخية، وتارة أخرى الاجتماعية، وثالثة المعمارية، ورابعة بتخطيط المدن، مستخدماً مصادر علمية رصينة أولية، نراها متنوعة، خرج منها برؤية محددة المعالم متكاملة الأركان مختلفة كل الاختلاف عن الدراسات السابقة، بعيدة كل البعد من الجمود، في قالب فكري، وأسلوب سلس يمتع القارئ، ويقدم له المعلومة تلو الأخرى بطريقة يسيرة بسيطة. ولهذا، فإنه يستحق القراءة والاقتناء، لأنه ممتع في تصفحه وقراءته ومعرفة تفاصيل العمارة الإسلامية من مساجد وقلاع وأسبلة وحمامات، بخاصة أنه لا يتناول العمارة الإسلامية في الصين والأندلس فحسب، وإنما في كل بقاع العالم الإسلامي كافة «من الصين إلى الأندلس».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق